استشكالات أوّلية:
رغم تعدّد و تنوّع بل و تعارض الحالات النفسية التي يمرّ منها الشّخص
طيلة حياته، فإنّ كلّ واحد منّا يُحيل باستمرار إلى نفسه بضمير "أنا" بوصفه وحدة و هويّة
تظلّ مطابقة لذاتها على الدوام. غير أنّ هذه الوحدة التي تبدو بديهية تطرح مع ذلك
أسئلة عديدة بل إنّ البديهي يشكّل الموضوع الأثير و المفضّل للفكر الفلسفي. و يمكن
القول إنّ الفيلسوف يصادف إشكالية الوحدة المزعومة للهويّة الشخصيّة في معرض بحثه
في الماهيات و الجواهر. يتساءل الفيلسوف: إذا كان لكلّ شيء ماهية تخصّه، بها
يتميّز عن
أ ـ ثبات الأنا و استمراريته في الزمان:
موقف ديكارت:
التصوّر
الجوهراني الماهوي للهويّة الشخصية: نلاحظ أنّ الفرد يستطيع
التفكير في الموجودات الماثلة أمام حواسه أو المستحضرة صورتها عبر المخيّلة، و لكنّه
يستطيع أيضا التفكير في ذاته، في نفسه هذه التي تفكّر!! يسمّى هذا التفكير وعيا وهو نفس الوعي الذي اعتمد عليه ديكارت في "
الكوجيطو" و خصوصا وعي الذات بفعل التفكير الذي تنجزه في لحظة الشكّ أي الوعي
بالطبيعة المفكّرة للذات التي تقابل عند ديكارت طبيعة الامتداد المميّزة للجسم. تساءل ديكارت في التأمّل
الثاني: "أيّ شيء أنا إذن ؟ " و أجاب: " أنا شيء مفكّر" و لكن هل وراء
أفعال الشكّ و التذكّر و الإثبات و النفي و التخيّل و الإرادة...هل وراءها جوهر
قائم بذاته ؟ يجيب ديكارت بنعم: إنّها النفس،
جوهر خاصّيته الأساسيّة التفكير، أي أنّ للكائن البشري طبيعة
خصائصها هي أفعال التفكير من شكّ و تخيّل و إحساس... وهي ما يشكّل الهويّة الشخصية
للكائن البشري، بل إنّها صفته الأكثر يقينيّة، و الأكثر
صمودا أمام أقوى عوامل الشكّ.
موقف جون لوك:
نقد التصوّر الجوهراني
الماهوي: ليست الهويّة الشخصية سوى ذلك الوعي أو المعرفة المصاحبة لإحساساتنا.
يرى
"جون لوك" أنّ ماي جعل
الشخص "هو نفسه" عبر أمكنة و أزمنة مختلفة، هو ذلك الوعي أو المعرفة
التي تصاحب مختلف أفعاله و حالاته الشعورية من شمّ و تذوّق و سمع و إحساس و إرادة،
تضاف إليها الذاكرة التي تربط الخبرات الشعورية الماضية بالخبرة الحالية، ممّا
يعطي لهذا الوعي استمرارية في الزمان إذن'' فلوك" و "ديكارت" مجمعان بأنّ
الشخص هو ذلك الكائن الذي يحسّ و يتذكّر وـ يضيف التجريبي لوكـ يشمّ و يتذوّق! و لكنّهما
يختلفان فيما يخصّ وجود جوهر قائم بذاته يسند هذا الوعي و هذه الاستمرارية التي
يستشعرها الفرد؛ و الواقع أنّ " الجوهر المفكّر" ـ من وجهة نظر المحاكمة
الحسّية ـ كينونة ميتافيزيقية لا يسع لوك قبولها انسجاما مع نزعته التجريبية
التي لا تقرّ لشيء بصفة الواقعية و الحقيقة ما لم يكن إحساسا أو مستنبطا من إحساس و باختصار فالهويّة
الشخصية تكمن في فعل الوعي، و عندما يتعلّق الأمر بالماضي
يصبح الوعي ذاكرة بكلّ بساطة، و كلّ هذا لكي يتجنّب لوك القول بوجود جوهر مفكّر، أي
أنّ الهويّة لا تقوم في أي جوهر مادي كان أو عقلي، ولا تستمرّ إلاّ مادام هذا
الوعي مستمرّا.
موقف دافيد هيوم:
النقد الجذري للتصوّر الديكارتي الماهوي: دافيد هيوم فيلسوف تجريبي،
لا يعترف بغير الانطباعات الحسّية مصدرا أوّلا للأفكار، و عليه فلكي تكون فكرة ما
واقعية، فلا بدّ لها أن تشتقّ من انطباع حسّي ما، و الحال أن فكرة "الأنا" أو
"الشخص" ليست انطباعا حسّيا مفردا، بل هي ما تنسب إليه مختلف
الانطباعات. و إذا ما وجد انطباع حسّي مُولّد لفكرة "الأنا" فلا بدّ أن
يتّصف هذا الانطباع بنفس صفات الأنا وهي الثبات و الاستمرارية طيلة حياتنا، و الحال
أنّه لا وجود لانطباع مستمرّ و ثابت: إنّ الألم و اللذّة، الفرح و الحزن، الأهواء
و الإحساسات...، حالات شعورية تتعاقب ولا توجد أبدا متزامنة أو مجتمعة. و عليه
ففكرة الأنا لا يمكن أن تتولّد عن هذه الانطباعات ولاعن أي انطباع آخر، و من ثمّ
فلا وجود لمثل هذه الفكرة واقعيا، و من باب أولى ينبغي الامتناع عن أي حديث عن
الهويّة الشخصية كجوهر قائم بذاته.
ب ـ الذاكرة و الهويّة الشخصية:بغضّ النظر عمّا إذا كانت الهويّة جوهرا قائما بذاته أو تعاقبا لحالات شعورية متباينة، فإنّ الهويّة ليست كيانا ميتافيزيقيا مكتمل التكوين منذ البدء، إنّها سيرورة سيكلوجية تجد سندها المادي في الذاكرة، و عملية تطوّرية تنشأ تدريجيا بفضل تفاعل الفرد مع الغير، سبق لــ ابن سينا أن لاحظ، في هذا الإطار، بأنّ فعل التذكّر هو الذي يمنح الفرد شعورا بهويته و أناه و بثباتها. و يتجلّى هذا واضحا في شعور الفرد داخلياً و عبر حياته باستمرار وحدة شخصيته و هويّتها و ثباتها ضمن الظروف المتعدّدة التي تمرّ بها، كما يظهر بوضوح في وحدة الخبرة التي يمرّ بها في الحاضر و استمرار اتّصالها مع الخبرة الماضية التي كان يمرّ بها. إذا كانت الذاكرة هي ما يعطي لشعور الشخص بأناه و بهويّته مادتهما الخام، فإنّ امتداد هذه الهويّة في الزمان، كما يلاحظ جون لوك، مرهون باتّساع أو تقلّص مدى الذكريات التي يستطيع الفكر أن يطالها الآن: و بعبارة أخرى إنّني الآن هو نفسه الذي كان ماضيا و صاحب هذا الفعل الماضي هو نفس الشخص الذي يستحضره الآن في ذاكرته. لهذا السبب، و عندما يتساءل برغسون عن ماهية الوعي المصاحب لجميع عمليات تفكيرنا، يجيب ببساطة: إنّ الوعي ذاكرة، يوجد بوجودها و يتلف بتلفها. و من الجدير بالذكر أنّ الوعي بالذات على هذا النحو الأرقى ليس مقدرة غريزية أو إشراقا فجائيا، بل هو مسلسل تدريجي بطيء يمرّ أوّلا عبر إدراك وحدة الجسم الذي ينفصل به الكائن عمّا عداه و عبر العلاقة مع الغير.
II ـ الشخص بوصفه قيمة:
استشكالات أوّلية:
ما الذي يؤسّس البعد القيمي ـ الأخلاقي للشخص ؟ و هل يمكن فلسفيا تبرير الاحترام و الكرامة الواجبة بشكل مطلق للشخص البشري ؟ و ما علاقة ذلك بمسؤوليته و التزامه كذات عاقلة و حرّة تنسب إليها مسؤولية أفعالها ؟ يستفاد من المحورين السابقين أن الفرد و بشكل مجرّد سابق على كلّ تعيين ـ أي و قبل أن يتحدّد بطول قامته أو لون عينيه أو مزاجه أو ثروته ـ هو ذات مفكّرة، عاقلة، واعية قوامها الأنا الذي يمثّل جوهرها البسيط الثابت، و ذلك بغضّ النظر عن الاختلاف القائم بين الفلاسفة حول طبيعة هذا الأنا و علاقته بالجسد و الانطباعات الحسّية و الذاكرة... و لكن ما فائدة هذا التجريد النظري على المستوى العملي ؟ هل يمكن أن نرتّب عليه نتائج أخلاقية ملموسة ؟
موقف كانط:
العقل أساس
قيمة الشخص و كرامته: انطلاقا من هذا التجريد، ذهب كانط بأنّ الإنسان
هو أكثر من مجرّد معطى طبيعي، إنّه ذات لعقل عملي أخلاقي يستمدّ منه كرامة أي قيمة
داخلية مطلقة تتجاوز كلّ تقويم أو سعر. إنّ قدرته كذات أخلاقية على أن يشرّع لنفسه
مبادئ يلتزم بها بمحض إرادته، هي ما يعطيه الحقّ في إلزام الآخرين باحترامه أي
التصرّف وفق هذه المبادئ. و مادام هذا العقل الأخلاقي و مقتضياته كونيا، فإنّ
الإنسانية جمعاء تجثم بداخل كلّ فرد ممّا يستوجب احترامه و معاملته كغاية لا
كوسيلة و النظر إليه كما لو كان عيّنة تختزل الإنسانية جمعاء. و هذا الاحترام
الواجب له من طرف الغير لا ينفصل عن ذلك الاحترام الذي يجب للإنسان تجاه نفسه، إذ
لا ينبغي له أن يتخلّى عن كرامته، وهو ما يعني أن يحافظ على الوعي بالخاصّية
السامية لتكوينه الأخلاقي الذي يدخل ضمن مفهوم الفضيلة، . لقد كتب كانط هذه الأفكار في
"أسس ميتافيزيقا الأخلاق" في القرن الثامن عشر. و صحيح أنّ القرن
العشرين قد شهد تحسّنا كبيرا للشرط البشري مقارنة مع قرن الأنوار: إلغاء الرقّ،
التخفيف من الميز ضدّ النساء...، بيد أنّه عرف أيضا أهوال حربين عالميتين جسّدتا
واقعيا فكرة الدمار الشامل، انضافت إليهما حروب محلّية شهدت أبشع أنواع التطهير
العرقي و معسكرات الاعتقال... ممّا جعل التأمل الفلسفي، في القرن العشرين يعاود
مجددّا طرح السؤال حول حرمة الكائن البشري و سلامته الجسدية و بالخصوص حقّه في عدم
التعرّض للأذى، "
موقف طوم ريغان:
قيمة الشخص نابعة من كونه
كائنا حياّ حاسّا: تنتمي فلسفة طوم ريغان إلى التقليد الكانطي، لكن في حين
يؤسّس كانط القيمة المطلقة
التي نعزوها إلى الكائنات البشرية على خاصية العقل، و بالضبط العقل الأخلاقي
العملي، التي تتمتّع بها هذه الكائنات، بما يجعل منها ذواتا أخلاقية، فإنّ طوم ريغان يعتبر هذا
التأسيس غير كاف، و حجّته في ذلك أنّنا ملزمون باحترام القيمة المطلقة لكائنات بشرية
غير عاقلة مثل الأطفال و كذا الذين يعانون من عاهات عقلية جسيمة، و عليه فإنّ
الخاصية الحاسمة و المشتركة بين الكائنات البشرية ليست هي العقل، بل كونهم كائنات
حاسّة واعية أي كائنات حيّة تستشعر حياتها، بما لديها من معتقدات و توقعّات و رغبات
و مشاعر مندمجة ضمن وحدة سيكلوجية مستمرّة في الماضي عبر التذكّر و منفتحة على
المستقبل من خلال الرغبة و التوقّع...، ممّا يجعل حياتها واقعة يعنيها أمرها،
بمعنى أنّ ما يحدث لها، من مسرّة تنشدها أو تعاسة تتجنّبها، يعنيها بالدرجة الأولى
بغضّ النظر عمّا إذا كان يعني شخصا آخر أم لا " و يمضي توم ريغان بهذا المبدأ
إلى مداه الأقصى فيخلص إلى أنّ جميع المخلوقات التي يمكنها أن تكون «قابلة
للحياة»، أي مواضيع لوجود يمكن أن يتحوّل للأفضل أو للأسوإ بالنسبة إليها، تمتلك
قيمة أصلية في ذاتها و تستحقّ أن تحترم مصالحها في عيش حياة أفضل.. إذا كان تصوّر طوم ريغان يتجاوز بعض
مفارقات التصوّر الكانطي، فإنّه يثير
مفارقات لا تقلّ عنها إحراجا لأنّ معيار "الذات الحية التي تستشعر
حياتها" يلزمنا بإضفاء قيمة أصيلة مطلقة ليس فقط على الكائنات البشرية، بل و حتّى
الحيوانات و بالخصوص الثدييات التي سنصبح مطالبين بمعاملتها كغاية لا كمجرّد وسيلة
III ـ الشخص بين الضرورة و الحتمية:
استشكالات أوّلية:
يبدو أنّ مدار الحديث عن مفهوم الشّخص ـ كذات عاقلة و حرّة تنسب إليها مسؤولية أفعالها ـ ينحصر في قضيتين: الكرامة و المسؤولية. يشير المفهوم الأوّل إلى ما يحقّ للمرء التمتعّ به بوصفه شخصا، بينما يشير المفهوم الثاني إلى ما هو ملزم أو ملتزم به أو مطالب به بوصفه شخصا أيضا. بحثنا المفهوم الأوّل في المحور السابق. إذا اقتصرنا الآن على المفهوم الثاني، فمن اليسير أن نتصوّر بأنّ المسؤولية لا تنفصل عن صفة أخرى وهي الحرّية التي يطالب بها الفرد كجزء من كرامته، و هذه المرة أيضا، بوصفه شخصا. لن نتوقّف عند الحرّيات السياسية لأنّ المانع دونها جليّ واضح، وهو النظام السياسي و مختلف أشكال التضييق و القمع التي يمارسها على حرّية الأفراد في التجمّع و التعبير، سيقتصر بحثنا فقط على الحرّية التي يحاسب الشخص بموجبها أخلاقيا من قبل الغير أو من قبل ضميره الشخصي (تأنيب الضمير)؛ أو تلك الحرّية التي تترتّب عنها المسؤولية المدنية أو الجنائية و التي بموجبها يحاسب المرء قانونيا أمام العدالة، ذلك أنّ القاضي ملزم بإثبات خلو الفعل من الإكراه كشرط لإثبات المسؤولية أي توفّر عنصر الحرّية و الاختيار، و بناءا عليه يعرض المتّهم نفسه للعقوبات المقرّرة. هل هذه الحرّية المفترضة موهومة، لأنّ الشخص يرزح تحت وطأة مجموعة من الإكراهات و الإشراطات التي لا يطالها وعيه أحيانا، أم أنّ الشخص البشري ليس موضوعا ولا تجوز في حقّه مقولات العلم و على رأسها الحتمية ؟
موقف العلوم الإنسانية:
تتمثّل الضرورة في خضوع الشخص لحتميات تتجاوز وعيه و تلغي حرّيته: في المحورين السابقين تمّت مقاربة مفهوم الشخص من زاوية الوعي و بشكل مجرّد من كلّ تعيين، بيد أنّ الكائن البشري بنية سيكوفيزيولوجية و كائن سوسيوثقافي، فلا يسعه الانفلات من قوانين الفيزيولوجيا و المحدّدات النفسية و الإكراهات السوسيوثقافية. إنّ تجاهل هذه الشروط هي ما يجعل كلّ إنسان يعتقد أنّه السيّد في مملكة نفسه، و أنّه من اختار بمحض إرادته بعض ملامح شخصيته، هناك مذاهب فلسفية كثيرة قامت على فكرة الحتمية الكونية الشاملة فلم تر في الشعور بالحرّية سوى وهم ناتج عن جهل بسلسلة العلل و الأسباب، و كما يقول سبينوزا، فإنّ الناس يعون حقّا رغباتهم لكنّهم يجهلون العلل الخفية التي تدفعهم إلى الرغبة في هذا الموضوع أو ذاك. و بيدو أنّ العلوم الإنسانية المعاصرة تقدّم دلائل إضافية داعمة للتصوّر الحتمي السبينوزي: فالتحليل النفسي مثلا يرى البناء النفسي للشخصية كنتيجة حتمية لخبرات مرحلة الطفولة، كما أنّ الكثير من الأنشطة الإنسانية تحرّكها دوافع الهو اللاشعورية ذات الطبيعة الجنسية أو العدوانية. هذا الهو الذي قال عنه "نيتشه:" وراء أفكارك و شعورك يختفي سيّد مجهول يريك السبيل، اسمه الهو. في جسمك يسكن، بل هو جسمك، وصوابه أصوب من صواب حكمتك"، بل إن بول هودار يذهب إلى حدّ القول بأنّ: " كلام الإنسان كلام مهموس له به من طرف الهو، الذي يعبر عن نفسه في الإنسان عندما يحاول الإنسان أن يعبّر عن ذاته !!"
أمّا بالنسبة لعلماء الاجتماع و الأنثربولوجيا، فإنّ طبقات مهمّة في الشخصية لا تعدو أن تكون سوى انعكاس للشخصية الأساسية للمجتمع أو الشخصية الوظيفية لجماعة الانتماء، بحيث يمكن القول مع دوركايم أنّه كلّما تكلّم الفرد أو حكم، فالمجتمع هو الذي يتكلّم أو يحكم من خلاله. و إذا كانت التنشئة الاجتماعية تزوّد الفرد بعناصر من ثقافة المجتمع، فإنّ هذه الثقافة بدورها حسب التحليل الماركسي ليست سوى انعكاس للبنية التحتية المستقلّة عن وعي الذوات: لأنّ الوجود المادي هو الذي يحدّد الوعي لا العكس. حاصل الكلام هو اختفاء الإنسان أو موته كما أعلنت البنيوية، لأنّ البنيات النفسية الاجتماعية اللغوية... هي التي تفعل و ليس الذات أو الفرد. هل يمكن بعد كلّ هذا الحديث عن الإنسان كما نتحدّث عن ذات أي عن كائن قادر على القيام بعمل إرادي ؟ هل للسؤال "من أنا " بعد من قيمة ؟ !!
موقف سارتر و مونييه:
إنّ كون الكائن البشري شخصا هو بالضبط ما يسمح له بأن يبارح مملكة الضرورة ؟ رغم كلّ ما ذكر فإنّ الإنسان لازال يقنع نفسه بأنّ له شيئا يفعله، شيئا يبقى عليه أن يفعله. إنّ النظر إلى الشخص باعتباره ذاتا و وعيا يمكنّنا من القول بأنّ وعي الإنسان بالحتميات الشارطة يمثّل خطوة أولى على طريق التحرّر من تأثيرها و إشراطها المطلق، لقد اشتقّت الوجودية مقولة " أسبقية الوجود على الماهية " من خاصية الوعي، لأنّ الإنسان ليس وجودا في ذاته كالأشياء، بل وجودا لذاته: يوجد و يعي وجوده، ممّا يجعل وجوده تركيبة لا نهائية من الاختيارات و الإمكانيات؛ و على عكس الطاولة أو الشبل اللذان يتحدّد نمط وجودهما بشكل خطّي انطلاقا من ماهيتهما القبلية، فإنّ الإنسان مفتقر إلى مثل هذه الماهية التي قد تسمح بتعريفه أو الحديث عن شخصيته على نحو قبلي مسبق. صحيح أنّ الفرد يحيا على الدوام لا في المطلق، بل في وضعية محدّدة اجتماعيا و تاريخيا، لكنّ ردود أفعاله و اختياراته لا تحدّدها هذه الشروط الموضوعية وحدها، بل و أيضا المعنى الذاتي الذي يفهم بموجبه هذه الشروط و الأوضاع ممّا يفسح مجالا واسعا للحرّية و انفتاح الممكنات. من هنا نفهم تصريح سارتر بأنّ الإنسان مشروع في سماء الممكنات، محكوم عليه بأن يكون حرّا، و بأنّ الإنسان ليس شيئا آخر غير ما يصنع بنفسه. و نستطيع استثمار أطروحة سارتر التي أتينا على ذكرها للقول بأنّ الإنسان ليس آلة إلكترونية، حتّى لو أضفنا لها صفات الذكاء و الصنع المتقن كما يقول إيمانويل مونييه الذي يرفض كلّ اختزال للشخص إلى شيء أو موضوع لأنّ البشر ليسوا صنفا من أشجار متحرّكة أو جنسا من حيوانات ذكية بمعنى أنّ كلّ المعرفة الوضعية التي راكمتها العلوم الإنسانية لا يمكنها أن تستنفذ حقيقة الشخص الذي يظلّ أكثر من مجرّد شخصية أي أكثر من مجرّد نظام سيكوفيزيولولجي و سوسيوثقافي. نلاحظ أنّ وجودية سارتر و شخصانية مونييه يتقاطعان في رفض الخطاطة التبسيطية التي تجعل الشخص و الظاهرة الإنسانية عموما ظاهرة خاضعة على غرار الظواهر الطبيعية لمقولات العلم الموضوعي و على رأسها الحتمية، إنّ الإنسان بالنسبة لفلاسفة الحرّية تجربة ذاتية منغرسة في العالم لا تتوقّف عن إبداع نفسها و لكن تقول العلوم الإنسانية: إنّه لا يبدع ولا يعبر إلاّ عن مجمل الشروط التي يتلقّى!
خلاصة عامة للدّرس:
إذا كان لا بدّ من خلاصة تجمع أطراف موضوع متشعّب كموضوع "الشخص"، فسنقول إنّ الشخص، تلك الوحدة الصورية، ذلك الكائن المفكّر العاقل والواعي... إلخ ينطوي في المستوى المحسوس على شخصية هي حصيلة تفاعل بين عوامل باطنية و أخرى متعلقّة بالمحيط الخارجي، إنّها ذلك الشكل الخاصّ من التنظيم الذي تخضع له البنيات الجسمية، النفسية و الاجتماعية. صحيح أنّ هذا التنظيم يخضع لعوامل و محدّدات موضوعية كثيرة، لكن ذلك لا يلغي دور الشخص في بناء شخصيته. و إذا ما بدا موضوع الشخص إشكاليا متعدّد الأبعاد، فما ذلك إلاّ لأنّ دراسة الشخص ليست إلاّ اسما آخر لدراسة الإنسان بكلّ تعقده و غموضه.
منقـــــــــولIII ـ الشخص بين الضرورة و الحتمية:
استشكالات أوّلية:
يبدو أنّ مدار الحديث عن مفهوم الشّخص ـ كذات عاقلة و حرّة تنسب إليها مسؤولية أفعالها ـ ينحصر في قضيتين: الكرامة و المسؤولية. يشير المفهوم الأوّل إلى ما يحقّ للمرء التمتعّ به بوصفه شخصا، بينما يشير المفهوم الثاني إلى ما هو ملزم أو ملتزم به أو مطالب به بوصفه شخصا أيضا. بحثنا المفهوم الأوّل في المحور السابق. إذا اقتصرنا الآن على المفهوم الثاني، فمن اليسير أن نتصوّر بأنّ المسؤولية لا تنفصل عن صفة أخرى وهي الحرّية التي يطالب بها الفرد كجزء من كرامته، و هذه المرة أيضا، بوصفه شخصا. لن نتوقّف عند الحرّيات السياسية لأنّ المانع دونها جليّ واضح، وهو النظام السياسي و مختلف أشكال التضييق و القمع التي يمارسها على حرّية الأفراد في التجمّع و التعبير، سيقتصر بحثنا فقط على الحرّية التي يحاسب الشخص بموجبها أخلاقيا من قبل الغير أو من قبل ضميره الشخصي (تأنيب الضمير)؛ أو تلك الحرّية التي تترتّب عنها المسؤولية المدنية أو الجنائية و التي بموجبها يحاسب المرء قانونيا أمام العدالة، ذلك أنّ القاضي ملزم بإثبات خلو الفعل من الإكراه كشرط لإثبات المسؤولية أي توفّر عنصر الحرّية و الاختيار، و بناءا عليه يعرض المتّهم نفسه للعقوبات المقرّرة. هل هذه الحرّية المفترضة موهومة، لأنّ الشخص يرزح تحت وطأة مجموعة من الإكراهات و الإشراطات التي لا يطالها وعيه أحيانا، أم أنّ الشخص البشري ليس موضوعا ولا تجوز في حقّه مقولات العلم و على رأسها الحتمية ؟
موقف العلوم الإنسانية:
تتمثّل الضرورة في خضوع الشخص لحتميات تتجاوز وعيه و تلغي حرّيته: في المحورين السابقين تمّت مقاربة مفهوم الشخص من زاوية الوعي و بشكل مجرّد من كلّ تعيين، بيد أنّ الكائن البشري بنية سيكوفيزيولوجية و كائن سوسيوثقافي، فلا يسعه الانفلات من قوانين الفيزيولوجيا و المحدّدات النفسية و الإكراهات السوسيوثقافية. إنّ تجاهل هذه الشروط هي ما يجعل كلّ إنسان يعتقد أنّه السيّد في مملكة نفسه، و أنّه من اختار بمحض إرادته بعض ملامح شخصيته، هناك مذاهب فلسفية كثيرة قامت على فكرة الحتمية الكونية الشاملة فلم تر في الشعور بالحرّية سوى وهم ناتج عن جهل بسلسلة العلل و الأسباب، و كما يقول سبينوزا، فإنّ الناس يعون حقّا رغباتهم لكنّهم يجهلون العلل الخفية التي تدفعهم إلى الرغبة في هذا الموضوع أو ذاك. و بيدو أنّ العلوم الإنسانية المعاصرة تقدّم دلائل إضافية داعمة للتصوّر الحتمي السبينوزي: فالتحليل النفسي مثلا يرى البناء النفسي للشخصية كنتيجة حتمية لخبرات مرحلة الطفولة، كما أنّ الكثير من الأنشطة الإنسانية تحرّكها دوافع الهو اللاشعورية ذات الطبيعة الجنسية أو العدوانية. هذا الهو الذي قال عنه "نيتشه:" وراء أفكارك و شعورك يختفي سيّد مجهول يريك السبيل، اسمه الهو. في جسمك يسكن، بل هو جسمك، وصوابه أصوب من صواب حكمتك"، بل إن بول هودار يذهب إلى حدّ القول بأنّ: " كلام الإنسان كلام مهموس له به من طرف الهو، الذي يعبر عن نفسه في الإنسان عندما يحاول الإنسان أن يعبّر عن ذاته !!"
أمّا بالنسبة لعلماء الاجتماع و الأنثربولوجيا، فإنّ طبقات مهمّة في الشخصية لا تعدو أن تكون سوى انعكاس للشخصية الأساسية للمجتمع أو الشخصية الوظيفية لجماعة الانتماء، بحيث يمكن القول مع دوركايم أنّه كلّما تكلّم الفرد أو حكم، فالمجتمع هو الذي يتكلّم أو يحكم من خلاله. و إذا كانت التنشئة الاجتماعية تزوّد الفرد بعناصر من ثقافة المجتمع، فإنّ هذه الثقافة بدورها حسب التحليل الماركسي ليست سوى انعكاس للبنية التحتية المستقلّة عن وعي الذوات: لأنّ الوجود المادي هو الذي يحدّد الوعي لا العكس. حاصل الكلام هو اختفاء الإنسان أو موته كما أعلنت البنيوية، لأنّ البنيات النفسية الاجتماعية اللغوية... هي التي تفعل و ليس الذات أو الفرد. هل يمكن بعد كلّ هذا الحديث عن الإنسان كما نتحدّث عن ذات أي عن كائن قادر على القيام بعمل إرادي ؟ هل للسؤال "من أنا " بعد من قيمة ؟ !!
موقف سارتر و مونييه:
إنّ كون الكائن البشري شخصا هو بالضبط ما يسمح له بأن يبارح مملكة الضرورة ؟ رغم كلّ ما ذكر فإنّ الإنسان لازال يقنع نفسه بأنّ له شيئا يفعله، شيئا يبقى عليه أن يفعله. إنّ النظر إلى الشخص باعتباره ذاتا و وعيا يمكنّنا من القول بأنّ وعي الإنسان بالحتميات الشارطة يمثّل خطوة أولى على طريق التحرّر من تأثيرها و إشراطها المطلق، لقد اشتقّت الوجودية مقولة " أسبقية الوجود على الماهية " من خاصية الوعي، لأنّ الإنسان ليس وجودا في ذاته كالأشياء، بل وجودا لذاته: يوجد و يعي وجوده، ممّا يجعل وجوده تركيبة لا نهائية من الاختيارات و الإمكانيات؛ و على عكس الطاولة أو الشبل اللذان يتحدّد نمط وجودهما بشكل خطّي انطلاقا من ماهيتهما القبلية، فإنّ الإنسان مفتقر إلى مثل هذه الماهية التي قد تسمح بتعريفه أو الحديث عن شخصيته على نحو قبلي مسبق. صحيح أنّ الفرد يحيا على الدوام لا في المطلق، بل في وضعية محدّدة اجتماعيا و تاريخيا، لكنّ ردود أفعاله و اختياراته لا تحدّدها هذه الشروط الموضوعية وحدها، بل و أيضا المعنى الذاتي الذي يفهم بموجبه هذه الشروط و الأوضاع ممّا يفسح مجالا واسعا للحرّية و انفتاح الممكنات. من هنا نفهم تصريح سارتر بأنّ الإنسان مشروع في سماء الممكنات، محكوم عليه بأن يكون حرّا، و بأنّ الإنسان ليس شيئا آخر غير ما يصنع بنفسه. و نستطيع استثمار أطروحة سارتر التي أتينا على ذكرها للقول بأنّ الإنسان ليس آلة إلكترونية، حتّى لو أضفنا لها صفات الذكاء و الصنع المتقن كما يقول إيمانويل مونييه الذي يرفض كلّ اختزال للشخص إلى شيء أو موضوع لأنّ البشر ليسوا صنفا من أشجار متحرّكة أو جنسا من حيوانات ذكية بمعنى أنّ كلّ المعرفة الوضعية التي راكمتها العلوم الإنسانية لا يمكنها أن تستنفذ حقيقة الشخص الذي يظلّ أكثر من مجرّد شخصية أي أكثر من مجرّد نظام سيكوفيزيولولجي و سوسيوثقافي. نلاحظ أنّ وجودية سارتر و شخصانية مونييه يتقاطعان في رفض الخطاطة التبسيطية التي تجعل الشخص و الظاهرة الإنسانية عموما ظاهرة خاضعة على غرار الظواهر الطبيعية لمقولات العلم الموضوعي و على رأسها الحتمية، إنّ الإنسان بالنسبة لفلاسفة الحرّية تجربة ذاتية منغرسة في العالم لا تتوقّف عن إبداع نفسها و لكن تقول العلوم الإنسانية: إنّه لا يبدع ولا يعبر إلاّ عن مجمل الشروط التي يتلقّى!
خلاصة عامة للدّرس:
إذا كان لا بدّ من خلاصة تجمع أطراف موضوع متشعّب كموضوع "الشخص"، فسنقول إنّ الشخص، تلك الوحدة الصورية، ذلك الكائن المفكّر العاقل والواعي... إلخ ينطوي في المستوى المحسوس على شخصية هي حصيلة تفاعل بين عوامل باطنية و أخرى متعلقّة بالمحيط الخارجي، إنّها ذلك الشكل الخاصّ من التنظيم الذي تخضع له البنيات الجسمية، النفسية و الاجتماعية. صحيح أنّ هذا التنظيم يخضع لعوامل و محدّدات موضوعية كثيرة، لكن ذلك لا يلغي دور الشخص في بناء شخصيته. و إذا ما بدا موضوع الشخص إشكاليا متعدّد الأبعاد، فما ذلك إلاّ لأنّ دراسة الشخص ليست إلاّ اسما آخر لدراسة الإنسان بكلّ تعقده و غموضه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق