محمد عابد الجابري
ديناميتها الداخلية و قابليتها للتواصل و الأخذ
و العطاء. و بعبارة أخرى إنّ الثقافة هي "المُعبّر الأصيل عن الخصوصية
التاريخية لأمّة من الأمم، عن نظرة هذه الأمّة إلى الكون و الحياة و الموت و الإنسان
و مهامّه و قدراته و حدوده، و ما ينبغي أن يعمل و ما لا ينبغي أن يأمل". تَلزم
عن هذا التعريف، لزوما ضروريا، النتيجة التالية، تشكّل قلب هذه الأطروحة و جوهرها،
وهي أنّه: ليست هناك ثقافة عالمية واحدة، و ليس من المحتمل أن توجد في يوم من الأيّام،
و إنّما وجدت، و توجد و ستوجد، ثقافات متعدّدة متنوّعة تعمل كلّ منها بصورة
تلقائية، أو بتدخّل إرادي من أهلها، على الحفاظ على كيانها و مقوّماتها الخاصة. من
هذه الثقافات ما يميل إلى الانغلاق و الانكماش، و منها ما يسعى إلى الانتشار و التوسّع،
و منها ما ينعزل حينا و ينتشر حينا آخر.
تهدف هذه الورقة إلى رسم إطار عام للعلاقة بين العولمة و
الهويّة الثقافية كما يمكن أن ترصد اليوم في الوطن العربي، سواء كعلاقة قائمة
بالفعل أو كما يمكن أن تقوم في المستقبل. وهي تستعيد بصورة أو بأخرى معطيات سبق
تقريرها في أعمال سابقة. و بالتالي فالورقة تقدّم أطروحات تؤخذ هنا كحقائق أو
مسلّمات سبق تبريرها في أعمال أخرى. هذه الأطروحات هي:
الأطروحة 1: ليست هناك ثقافة عالمية واحدة ، بل ثقافات…
إنّنا نقصد بـ "الثقافة" هنا: ذلك المركّب
المتجانس من الذكريات و التصوّرات و القيم و الرموز و التعبيرات و الإبداعات و التطلّعات
التي تحتفظ لجماعة بشرية، تشكّل أمّة أو ما في معناها، بهويّتها الحضارية، في إطار ما تعرفه من تطوّرات بفعل
الأطروحة 2: الهويّة الثقافية مستويات ثلاثة: فردية، و جمعوية، و وطنية قومية.
و العلاقة بين هذه المستويات تتحدّد أساسا بنوع "الآخر"
الذي تواجهه.
إنّ الهويّة الثقافية كيان يصير، يتطوّر، و ليست معطى
جاهزا و نهائيا. هي تصير و تتطوّر، إمّا في اتّجاه الانكماش
و إمّا في اتّجاه الانتشار، وهي تغتني بتجارب أهلها و معاناتهم، انتصاراتهم و تطلّعاتهم،
و أيضا باحتكاكها سلبا و إيجابا مع الهويّات الثقافية الأخرى التي تدخل معها في
تغاير من نوع ما. و على العموم، تتحرّك الهويّة الثقافية على ثلاث دوائر متداخلة
ذات مركز واحد:
* فالفرد داخل الجماعة الواحدة، قبيلة كانت أو طائفة أو جماعة مدنية
(حزبا أو نقابة الخ…)، هو عبارة عن هويّة متميّزة و مستقلّة. عبارة عن "أنا"،
لها "آخر"
داخل الجماعة نفسها: "أنا" تضع نفسها في مركز الدائرة
عندما تكون في مواجهة مع هذا النوع من "الآخر".
* و الجماعات،
داخل الأمّة، هي كالأفراد داخل الجماعة، لكلّ منها ما يميّزها داخل الهويّة
الثقافية المشتركة، و لكلّ منها "أنا" خاصّة بها و "آخر" من
خلاله و عبره تتعرّف على نفسها بوصفها ليست إيّاه.
* و الشيء نفسه يقال بالنسبة للأمّة الواحدة إزاء الأمم الأخرى. غير أنّها
أكثر تجريدا، و أوسع نطاقا، و أكثر قابلية للتعدّد و التنوّع و الاختلاف. هناك إذن
ثلاثة مستويات في الهويّة الثقافية، لشعب من الشعوب: الهويّة الفردية، و الهويّة
الجمعوية، و الهويّة الوطنية (أو القومية). و العلاقة بين هذه المستويات ليست قارة
و لا ثابتة، بل هي في مدّ و جزر دائمين، يتغيّر مدى كلّ منهما اتّساعا و ضيقا، حسب
الظروف و أنواع الصراع و اللاصراع، و التضامن و اللاتضامن، التي تحركّها المصالح:
المصالح الفردية و المصالح الجمعوية و المصالح الوطنية و القومية.
و بعبارة أخرى إنّ العلاقة بين هذه المستويات الثلاثة
تتحدّد أساسا بنوع "الآخر"،
بموقعه و طموحاته: فإن كان داخليّا، و يقع في دائرة الجماعة، فالهويّة الفردية هي
التي تفرض نفسها كـ"أنا"، و إن كان يقع في دائرة الأمّة فالهويّة
الجمعوية (القبلية، الطائفية، الحزبية الخ) هي التي تحلّ محلّ "الأنا"
الفردي. أمّا إن كان "الآخر" خارجيا، أي يقع خارج الأمّة (و الدولة و الوطن)
فإنّ الهويّة الوطنية ـ أو القومية ـ هي التي تملأ مجال "الأنا".
الأطروحة 3: لا تكتمل الهويّة الثقافية إلاّ إذا كانت مرجعيتها: جماع الوطن و الأمة
و الدولة.
لا تكتمل الهويّة الثقافية، ولا تبرز خصوصيتها الحضارية،
و لا تغدو هويّة ممتلئة قادرة على نشدان العالمية،
على الأخذ و العطاء، إلاّ إذا تجسّدت مرجعيّتها في كيان مشخّص تتطابق فيه ثلاثة
عناصر: الوطن و الأمّة و الدولة.
الوطن: بوصفه
"الأرض و الأموات"، أو الجغرافية و التاريخ و قد أصبحا كيانا روحيا
واحدا، يعمّر قلب كلّ مواطن. الجغرافيا و قد أصبحت معطى تاريخيّا. و التاريخ و قد
صار موقعا جغرافيا.
الأمة: بوصفها
النسب الروحي الذي تنسجه الثقافة المشتركة: و قوامها ذاكرة تاريخية و طموحات تعبّر
عنها الإرادة الجماعية التي يصنعها حبّ الوطن، أعني الوفاء لـ "الأرض و الأموات"،
للتاريخ الذي ينجب، و الأرض التي تستقبل و تحتضن.
الدولة: بوصفها
التجسيد القانوني لوحدة الوطن و الأمة، و الجهاز السّاهر على سلامتهما و وحدتهما و
حماية مصالحهما، و تمثيلهما إزاء الدول الأخرى، في زمن السّلم كما في زمن الحرب. و
لا بدّ من التمييز هنا بين "الدولة" ككيان مشخّص و مجرّد في الوقت نفسه،
كيان يجسّد وحدة الوطن و الأمّة، من جهة، و بين الحكومة أو النظام السياسي الذي
يمارس السلطة و يتحدّث باسمها من جهة أخرى. و واضح أنّنا نقصد هنا المعنى الأوّل.
و إذن، فكلّ مسّ بالوطن أو بالأمّة أو بالدولة هو مسّ
بالهويّة الثقافية، و العكس صحيح أيضا: كلّ مسّ بالهويّة الثقافية هو في نفس الوقت
مسّ بالوطن و الأمّة و تجسيدهما التاريخي: الدولة.
الأطروحة 4: ليست العولمة مجرّد آلية من آليات التطوّر الرأسمالي بل هي أيضا، و بالدرجة
الأولى، إيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم.
العولمة التي
يجري الحديث عنها الآن: نظام أو نسق ذو أبعاد تتجاوز دائرة الاقتصاد. العولمة الآن
نظام عالمي، أو يراد لها أن تكون كذلك، يشمل مجال المال و التسويق و المبادلات و الاتّصال
الخ... كما يشمل أيضا مجال السياسة و الفكر و الإيديولوجيا. والعولمة تعني
في معناها اللغوي: تعميم الشيء و توسيع دائرته ليشمل العالم كلّه. وهي تعني الآن،
في المجال السياسي منظورا إليه من زاوية الجغرافيا ( الجيوبولتيك)، العمل على
تعميم نمط حضاري يخصّ بلدا بعينه، هو الولايات المتّحدة الأمريكية بالذات، على
بلدان العالم أجمع. ليست العولمة مجرّد آلية من آليات التطوّر
"التلقائي" للنظام الرأسمالي، بل إنّها، أيضا، و بالدرجة الأولى دعوة
إلى تبنّي نموذج معيّن. و بعبارة أخرى، فالعولمة، إلى جانب أنّها تعكس مظهرا أساسيا
من مظاهر التطوّر الحضاري الذي يشهده عصرنا، هي أيضا إيديولوجيا تعبّر بصورة
مباشرة، عن إرادة
الهيمنة على العالم و أمركته. و قد حدّدت و سائلها لتحقيق ذلك في الأمور
التالية:
1 ـ
استعمال السوق العالمية أداة للإخلال بالتوازن في الدول
القومية، في نظمها و برامجها الخاصّة بالحماية الاجتماعية.
2 ـ
اتّخاذ السوق و المنافسة التي تجري فيها مجالا
لـ"الاصطفاء"، بالمعنى الدارويني للكلمة،
أي وفقا لنظرية داروين في
"اصطفاء الأنواع و البقاء للأصلح". و هذا يعني أنّ الدول و الأمم و الشعوب
التي لا تقدر على "المنافسة" سيكون مصيرها، بل يجب أن يكون، الانقراض.
3 ـ
إعطاء
كلّ الأهمّية و الأولويّة للإعلام لإحداث التغييرات المطلوبة على الصعيد المحلّي و العالمي، باعتبار أنّ
"الجيوبوليتيك"، أو السياسة منظورا إليها من زاوية الجغرافيا، و بالتالي
الهيمنة العالمية، أصبحت تعني اليوم مراقبة "السلطة اللامادية"، سلطة
تكنولوجية الإعلام التي ترسم اليوم الحدود في "الفضاء السيبرنيتي": حدود
المجال الاقتصادي السياسي التي ترسمها وسائل الاتّصال الإلكترونية المتطوّرة. و هكذا
فبدلا من الحدود الثقافية، الوطنية و القومية، تطرح إيديولوجيا العولمة
"حدودا" أخرى، غير مرئية، ترسمها الشبكات العالمية قصد الهيمنة على
الاقتصاد و الأذواق و الفكر و السلوك.
الأطروحة 5: العولمة شيء و"العالمية" شيء آخر.
العالمية تفتح
على العالم، على الثقافات الأخرى، و احتفاظ بالاختلاف الثقافي و بالخلاف
الإيديولوجي. أمّا العولمة فهي
نفي للآخر و إحلال للاختراق الثقافي محلّ الصراع الإيديولوجي. العولمة GLOBALISATION إرادة للهيمنة و بالتالي قمع و إقصاء للخصوصي. أمّا العالمية UNIVERSALITE UNIVERSALISME. فهي طموح إلى الارتفاع بالخصوصية إلى مستوى عالمي. العولمة
احتواء للعالم، و العالمية تفتح على ما هو عالمي و كوني. نشدان
العالمية في المجال الثقافي، كما في غيره من المجالات، طموح مشروع، و رغبة في
الأخذ و العطاء، في التعارف و الحوار و التلاقح. إنّها طريق الأنا للتعامل مع "الآخر" بوصفه "أنا ثانية"،
طريقها إلى جعل الإيثار يحلّ محلّ الأثرة. أمّا العولمة فهي طموح بل إرادة لاختراق "الآخر" و سلبه خصوصيته، و بالتالي
نفيه من "العالم" العالمية إغناء للهويّة الثقافية، أمّا
العولمة فهي اختراق لها و تمييع. و الاختراق الثقافي الذي تمارسه العولمة
يريد إلغاء الصراع الإيديولوجي و الحلول محلّه. الصراع الإيديولوجي صراع حول تأويل
الحاضر و تفسير الماضي و التشريع للمستقبل، أمّا الاختراق الثقافي فيستهدف الأداة
التي يتمّ بها ذلك التأويل و التفسير و التشريع: يستهدف العقل و النفس و وسيلتهما
في التعامل مع العالم: "الإدراك".
لقد حلّ هذا اللفظ اليوم ـ الإدراك ـ
محلّ لفظ آخر كان كثير الاستعمال بالأمس، في عصر الصراع الإيديولوجي، لفظ "الوعي" (الوعي الطبقي، الوعي القومي، الوعي
الديني…). كان الصراع الإيديولوجي و ما يزال يستهدف تشكيل الوعي، تزييفه أو تصحيحه
الخ، أمّا "الاختراق الثقافي"
فهو يستهدف أوّل ما يستهدف السيطرة على الإدراك، اختطافه و توجيهه، و بالتالي سلب
الوعي، و الهيمنة على الهويّة الثقافية الفردية و الجماعية. في زمن الصراع
الإيديولوجي كانت وسيلة تشكيل الوعي هي الإيديولوجيا، أمّا في زمن الاختراق
الثقافي فوسيلة السيطرة على الإدراك هي الصورة السمعية البصرية التي تسعى إلى
"تسطيح الوعي"،
إلى جعله يرتبط بما يجري على السطح من صور و مشاهد ذات طابع إعلامي إشهاري، مثير
للإدراك، مستفزّ للانفعال، حاجب للعقل… و بالسيطرة على الإدراك، و انطلاقا منها،
يتمّ "إخضاع النفوس"، أعني تعطيل فاعلية العقل، و تكييف المنطق، و التشويش
على نظام القيم، و توجيه الخيال، و تنميط الذوق، و قولبة السلوك. و الهدف تكريس
نوع معيّن من الاستهلاك لنوع معيّن من المعارف و السلع و البضائع: معارف إشهارية
تشكّل في مجموعها ما يمكن أن نطلق عليه "ثقافة
الاختراق".
الأطروحة 6: ثقافة الاختراق تقوم على جملة أوهام هدفها: "التطبيع" مع
الهيمنة و تكريس الاستتباع الحضاري.
تتولّى القيامَ بعملية تسطيح الوعي، و اختراق الهويّة
الثقافية للأفراد و الأقوام و الأمم، ثقافةٌ جديدة تماما لم يشهد التاريخ من قبل
لها مثيلا: ثقافة إشهارية إعلامية سمعية و بصرية تصنع الذوق الاستهلاكي (الإشهار
التجاري) و الرأي السياسي (الدعاية الانتخابية) و تشيد رؤية خاصّة للإنسان و المجتمع
و التاريخ، إنّها "ثقافة الاختراق" التي تقدّمها العولمة بديلا للصراع
الإيديولوجي. ولا يعني حلول الاختراق الثقافي محلّ الصراع الإيديولوجي موت
الإيديولوجيا، كما يريد المبشرّون بالعولمة أن
يوهموا الناس.. كلاّ إنّ الاختراق الثقافي، بالعكس من ذلك، مُحَمَّلٌ بإيديولوجيا
معيّنة، هي إيديولوجيا الاختراق، وهي تختلف عن الإيديولوجيات المتصارعة،
كالرأسمالية و الاشتراكية، في كونها لا تقدّم مشروعا للمستقبل، لا تقدّم نفسها
كخصم لبديل آخر تسمّيه و تقاومه، و إنّما تعمل على اختراق الرغبة في البديل و شلّ
نشدان التغيير لدى الأفراد و الجماعات. إيديولوجيا الاختراق تقوم على نشر و تكريس
جملة أوهام، هي نفسها "مكوّنات الثقافة الإعلامية الجماهيرية في الولايات
المتّحدة الأمريكية"، و قد حصرها باحث أمريكي في الأوهام الخمسة التالية: وهم
الفردية، وهم الخيار الشخصي، وهم الحياد، وهم الطبيعة البشرية التي لا تتغيّر، وهم
غياب الصراع الاجتماعي. و إذا نحن أردنا أن نوجز في عبارة واحدة مضمون هذه المسلّمات
الخمس، أمكن القول إنّ "الثقافة الإعلامية الجماهيرية" الأمريكية، هذه،
تكرّس إيديولوجيا "الفرديّة المستسلمة"، وهي إيديولوجيا تضرب في الصميم
الهويّة الثقافية بمستوياتها الثلاثة، الفردية و الجمعوية و الوطنية القومية. إنّ
"وهم الفردية"، أي اعتقاد المرء في أنّ حقيقة وجوده محصورة في فرديّته و
أنّ كلّ ما عداه أجنبي عنه لا يعنيه، إنّما يعمل ـ هذا الوهم ـ على تخريب و تمزيق
الرابطة الجماعية التي تجعل الفرد يعي أن وجوده إنّما يكمن في كونه عضوا في جماعة
و في طبقة و أمّة، و بالتالي فوهم الفردية هذا إنّما يهدف إلى إلغاء الهويّة
الجمعوية و الطبقية و الوطنية القومية، و كلّ إطار جماعي آخر، ليبقى الإطار
"العالمي" ـ بل العولمي - هو وحده الموجود… أمّا "وهم الخيار
الشخصي" فواضح أنّه يرتبط بالأوّل و يكمّله. إنّه، باسم الحريّة، يكرّس
النزعة الأنانية و يعمل على طمس الروح الجماعية سواء كانت على صورة الوعي الطبقي
أو الوعي القومي أو الشعور الإنساني. و يأتي "وهم الحياد" ليدفع بالأمور
خطوة أخرى في الاتّجاه نفسه: فمادام الفرد وحده الموجود، و مادام حرّا مختارا فهو
"محايد"، و كلّ الناس و الأشياء إزاءه "محايدون" أو يجب أن
يكونوا كذلك. و هكذا تعمل هذه الإيديولوجيا من خلال "وهم الحياد" على
تكريس التحلّل من كلّ التزام أو ارتباط بأيّة قضية. و من هنا ذلك الشعار الذي
انتشر في السنين الأخيرة: شعار: "وأنا مالي". و أمّا الوهم الرابع وهو
"الاعتقاد في الطبيعة البشرية التي لا تتغيّر"، فواضح أنّه يرمي إلى صرف
النظر عن رؤية الفوارق بين الأغنياء و الفقراء، بين البيض و السود، بين المستغلّين
و بين من هم ضحايا الاستغلال، و قبولها ـ أعني تلك الفوارق ـ بوصفها أمورا طبيعية
كالفوارق بين الليل و النهار و الصيف و الشتاء، و بالتالي شلّ روح المقاومة في
الفرد و الجماعة. و يأتي الوهم الخامس صريحا في منطوقه و مفهومه: إنّ
"الاعتقاد في غياب الصراع الاجتماعي" هو التتويج الصريح للأوهام
السابقة: غياب الصراع الاجتماعي معناه ـ إذا قبلناه و سلّمنا به ـ الاستسلام
للجهات المستغلّة، من شركات و وكالات و غيرها من أدوات العولمة. و بعبارة أخرى
التطبيع" مع الهيمنة و الاستسلام لعملية الاستتباع الحضاري الذي يشكّل الهدف
الأوّل و الأخير للعولمة.
الأطروحة 7: العولمة نظام يعمل على إفراغ الهويّة الجماعية من كلّ محتوى و يدفع
للتفتيت و التشتيت،. ليربط الناس بعالم اللاوطن و اللاأمّة و اللادولة، أو يغرقهم في أتون الحرب
الأهلية
و مع التطبيع مع الهيمنة و الاستسلام لعملية الاستتباع
الحضاري يأتي فقدان الشعور بالانتماء لوطن أو أمّة أو دولة، و بالتالي إفراغ الهويّة
الثقافية من كلّ محتوى. إنّ العولمة عالم بدون دولة، بدون أمّة، بدون وطن. إنّه عالم المؤسّسات و الشبكات العالمية، عالم "الفاعلين"، وهم
المسيّرون، و"المفعول فيهم" وهم المستهلكون للسّلع و الصور
و"المعلومات" و الحركات و السكنات التي تفرض عليهم. أمّا
"وطنهم" فهو الفضاء "المعلوماتي" الذي تصنعه شبكات الاتّصال،
الفضاء الذي يحتوي ـ يسيطر و يوّجه ـ الاقتصاد و السياسة والثقافة. العولمة نظام يقفز على الدولة و الأمّة و الوطن.
نظام يريد رفع الحواجز و الحدود أمام الشبكات و المؤسّسات و الشركات المتعدّدة
الجنسية، و بالتالي إذابة الدولة الوطنية و جعل دورها يقتصر على القيام بدور
الدركي لشبكات الهيمنة العالمية. و العولمة تقوم على الخوصصة، أي على نزع ملكية
الوطن و الأمة و الدولة و نقلها إلى الخواصّ في الداخل و الخارج. و هكذا تتحوّل
الدولة إلى جهاز لا يملك و لا يراقب و لا يوجه. و إضعاف سلطة الدولة و التخفيف من
حضورها لفائدة العولمة يؤدّيان حتما إلى استيقاظ و إيقاظ أطر للانتماء سابقة على
الأمّة و الدولة، أعني القبيلة و الطائفة و الجهة و التعصّب المذهبي الخ… و الدفع
بها جميعا إلى التقاتل و التناحر و الإفناء المتبادل: إلى تمزيق الهويّة الثقافية
الوطنية القومية… إلى الحرب الأهلية. و لا بدّ من الـتأكيد هنا على أنّ مفهوم
الهويّة الثقافية القومية الذي نستعمله هنا، بمعنى الهويّة المشتركة لجميع أبناء
الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، لا يعني قطّ إلغاء و لا إقصاء الهويّات
الوطنية القطرية و لا الهويّات الجمعوية، الإثنيّة و الطائفية. إنّه لا يعني فرض
نمط ثقافي معيّن على الأنماط الثقافية الأخرى، المتعدّدة و المتعايشة، عبر تاريخنا
المديد، داخل الوطن العربي الكبير. كلاّ، إنّ التعدّد الثقافي في الوطن العربي
واقعة أساسية لا يجوز القفز عليها، بل بالعكس لا بدّ من توظيفها بوعي في إغناء و إخصاب
الثقافة العربية القومية و توسيع مجالها الحيوي. و لكن تبقى مع ذلك كلّه الوظيفة
التاريخية لهذه الثقافة، وظيفة التوحيد المعنوي، الروحي و العقلي، وظيفة الارتفاع
بـ "الوطن العربي" من مجرّد رقعة جغرافية إلى وعاء للأمّة العربية لا
تكون إلاّ به ولا يكون إلاّ بها. هذا من جهة و من جهة أخرى، فاللغة المشتركة بين
جميع أبناء الأمّة العربية، لغة التراث المشترك، و لغة العلم و الثقافة العالمة
جملة، و بالتالي لغة التحديث و الحداثة هي اللغة العربية. و لذلك كانت اللغة
العربية هي، في آن واحد، الرابطة المتينة التي توحد بين مستويات الهويّة في الوطن
العربي، أعني المستوى الفردي و المستوى الجمعوي و المستوى الوطني و القومي، و أيضا
الأداة الوحيدة التي بها يمكن العرب الدخول في العالمية و تحقيق الحداثة.
الأطروحة 8: العولمة و تكريس الثنائية و الانشطار في الهويّة الثقافية العربية
كلّنا نعرف أنّ الثقافة العربية تعاني، منذ ما يقرب من
قرنيـن، وضعا متوتّرا نتيجة احتكاكها مع الثقافة الغربية، بتقنياتها و علومها و قيمها
الحضارية التي هي نتيجة تطوّر خاصّ قوامه التحديث و الحداثة، تطوّر لم تعشه
الثقافة العربية، بل بقيت بمعزل عنه تجترّ وضعا قديما توقّف عن النموّ منذ قرون. و
من هنا تلك الثنائية التي تطبع الثقافة العربية بمختلف مستوياتها المادية و الروحية،
ثنائية التقليدي و العصري. وهي ثنائية تكرّس الازدواجية و الانشطار داخل الهويّة
الثقافية العربية بمستوياتها الثلاثة: الفردي و الجمعوي و الوطني القومي: أحد طرفي
هذه الثنائية يعكس الهويّة الثقافية على صورة "جمود على التقليد" ضمن
قوالب و مفاهيم و آليات دفاعية تستعصي على الاختراق و تقاوم التجديد. و الآخر يجسّم
الاختراق الثقافي و قد اكتسح الساحة اكتساحا ليتحوّل إلى ثقافة الاختراق، أعني
الثقافة المبشّرة به المكرّسة له. في هذا الإطار إذن يجب أن نضع خصوصية العلاقة
بين العولمة و الهويّة الثقافية عندما يتعلّق الأمر بالوطن العربي. فالاختراق الثقافي الذي
تمارسه العولمة لا يقف عند حدود تكريس الاستتباع الحضاري بوجه عام، بل إنّه سلاح
خطير يكرّس الثنائية و الانشطار في الهويّة الوطنية القومية، ليس الآن فقط بل و على
مدى الأجيال الصاعدة و القادمة. ذلك أنّ الوسائل السمعية البصرية، المرئية و اللامرئية
التي تحمل هذا الاختراق و تكرّسه إنّما تملكها و تستفيد منها فئة معيّنة هي النخبة
العصرية و حواشيها، فهي التي تستطيع امتلاكها و التعامل مع لغاتها الأجنبية، بحكم
التعليم "العصري" الذي تتلقّاه. أمّا "عموم الشعب" و على رأسه
النخبة التقليدية فهو في شبه عزلة، يجترّ بصورة أو بأخرى ثقافة "الجمود على
التقليد". و النتيجة استمرار إعادة إنتاج متواصلة و متعاظمة للثنائية نفسها،
ثنائية التقليدي و العصري، ثنائية الأصالة و المعاصرة، في الثقافة و الفكر و السلوك.
الأطروحة 9: إنّ تجديد الثقافة، أيّة ثقافة، لا يمكن أن يتمّ إلاّ من داخلها:
بإعادة بنائها و ممارسة الحداثة في معطياتها و تاريخها، و التماس وجوه من الفهم و التأويل
لمسارها تسمح بربط الحاضر بالماضي في اتّجاه المستقبل.
ما العمل إزاء هذه السلبيات و الأخطار التي تطبع علاقة
العولمة بالعرب على صعيد الهويّة الثقافية ؟
هناك موقفان سهلان، و هما السائدان: موقف الرّفض المطلق
و سلاحه الانغلاق الكلّي و ما يتّبع ذلك من ردود فعل سلبية محاربة… و موقف القبول
التامّ للعولمة و ما تمارسه من اختراق ثقافي و استتباع حضاري، شعاره
"الانفتاح على العصر" و "المراهنة على الحداثة". لا مفرّ من
تصنيف هذين الموقفين ضمن المواقف اللاتاريخية التي تواجه المشاكل، لا بعقل واثق
بنفسه متمكّن من قدراته، و إنّما تستقبلها بعقل "مستقيل" لا يرى صاحبه
مخرجا من المشاكل إلاّ بالهروب منها، إمّا إلى الوراء و إمّا إلى الأمام، كلّ
سلاحه رؤية سحرية للعالم تقفز على الواقع إلى اللاواقع. إنّ الانغلاق موقف سلبي،
غير فاعل. ذلك لأنّ فعله "الموّجه" ضدّ الاختراق الثقافي ـ أي محاربته
له ـ لا ينال الاختراق و لا يمسّه و لا
يفعل فيه أي فعل، بل فعله موجّه كلّه إلى الذات قصد "تحصينها". و التحصين
إنّما يكون مفيدا عندما يكون المتحاربان على نسبة معقولة من تكافؤ القوى و القدرات.
أمّا عندما يتعلّق الأمر بظاهرة عالمية تدخل جميع البيوت و تفعل فعلها بالإغراء و العدوى
و الحاجة، و يفرضها أصحابها فرضا بتخطيط و استراتيجية، فإنّ الانغلاق في هذه
الحالة ينقلب إلى موت بطيء ، قد تتخلّله بطولات مدهشة و لكن صاحبه محكوم عليه
بالإخفاق. و مثل الانغلاق مثل مقابله: الاغتراب. إنّ ثقافة الاغتراب، أعني
إيديولوجيا الارتماء في أحضان العولمة و الاندماج فيها، ثقافة تنطلق من الفراغ، أي
من اللاهويّة، و بالتالي فهي لا تستطيع أن تبني هويّة و لا كيانا. يقول أصحاب هذا
الموقف: إنّه لا فائدة في المقاومة و لا في الالتجاء إلى التراث، بل يجب الانخراط
في العولمة من دون تردّد و من دون حدود، لأنّها ظاهرة حضارية عالمية لا يمكن
الوقوف ضدّها و لا تحقيق التقدّم خارجها. إنّ الأمر يتعلّق بـ "قطار يجب أن
نركبه" وهو ماض في طريقه بنا أو بدوننا. ولا يوضّح أصحاب هذه الدعوى هل سنبرز
هويّاتنا عند ركوب القطار أم أنّنا سنركبه بدون هويّة، بدون ورقة تعريف !؟ و بعيدا
عن مناقشة جدالية لهذه الدعوى، يكفي التنبيه إلى أنّها نفس الدعوى التي سبق أن ادّعاها
و نادى بها مفكّرون عرب روّاد منذ أزيد من قرن، و منذ ذلك الوقت وهي تتردّد و تتكرّر
هنا و هناك في الوطن العربي، تبنّتها حكومات و أحزاب فضلا عن الأفراد… و مع ذلك
فحصيلة قرن كامل من التبشير بهذه الدعوى ـ دعوى "الاغتراب" ـ لم تنتج
سوى فئة من "العصرانيين" قليلة العدد، نشاهد اليوم تناقصا نسبيا واضحا
في حجمها، بينما ازداد و يزداد الطرف المقابل لها عددا و عدّة، كمّا و كيفا، في
جميع الأقطار العربية و داخل جميع الشرائح الاجتماعية. و هكذا فبدلا من تيّارات
"حداثية" تمارس الهيمنة و القيادة تستقطب الأجيال الصاعدة، بدلا من ذلك
يسود الحديث عن "الأصولية الدينية " بوصفها الظاهرة المهيمنة. أمّا نحن
فنرى أنّ الجواب الصحيح عن سؤال "ما العمل"؟ ـ سواء إزاء الثنائية و الانشطار
اللذين تعاني منهما الثقافة العربية، أو إزاء الاختراق الثقافي و إيديولوجيا
العولمة ـ يجب أن ينطلق أوّلا و قبل كلّ شيء من العمل داخل الثقافة العربية نفسها.
ذلك لأنّه سواء تعلّق الأمر بالمجال الثقافي أو بغيره، فمن المؤكّد أنّه لولا الضعف الداخلي لما استطاع الفعل الخارجي أن يمارس
تأثيره بالصورة التي تجعل منه خطرا على الكيان و الهويّة. إنّ الثنائية و الانشطار ـ اللذين تحدثّنا عنهما و اللذين يشكّلان نقطة الضعف الخطيرة
في واقعنا الثقافي الرّاهن التي منها يمارس الاختراق تأثيره التخريبي ـ إنّما
يعكسان وضعية ثقافة لم تتمّ بعد إعادة بنائها، ثقافة يتزامن فيها القديم و الجديد،
و الأصيل و الوافد، في غير ما تفاعل و لا اندماج. و هذا راجع إلى أنّ التجديد في
ثقافتنا كان يراد له، منذ أزيد من قرن، أن يتمّ من "الخارج": بنشر الفكر
الحديث على سطحها. لقد سبق لنا أن أكّدنا مرارا على أنّ تجديد الثقافة، أيّة
ثقافة، لا يمكن أن يتمّ إلاّ من داخلها: بإعادة بنائها و ممارسة الحداثة في
معطياتها و تاريخها، و التماس وجوه من الفهم و التأويل لمسارها تسمح بربط الحاضر
بالماضي في اتّجاه المستقبل. و نعود فنؤكّد هنا هذا المعنى.
الأطروحة 10: إنّ حاجتنا إلى الدّفاع عن هويّتنا الثقافية بمستوياتها الثلاثة، لا تقلّ
عن حاجتنا إلى اكتساب الأسس و الأدوات التي لا بدّ منها لدخول عصر العلم والتقانة،
و في مقدّمتها العقلانية والديموقراطية
إنّ حاجتنا إلى تجديد ثقافتنا و إغناء هويّتنا و الدفاع
عن خصوصيتنا و مقاومة الغزو الكاسح الذي يمارسه، على مستوى عالمي، إعلاميا و بالتالي
إيديولوجيا و ثقافيا، المالكون للعلم و التقانة المسخرّون لهما لهذا الغرض، لا تقلّ
عن حاجتنا إلى اكتساب الأسس و الأدوات التي لا بدّ منها لممارسة التحديث و دخول
عصر العلم و التقانة، دخول الذوات الفاعلة المستقلّة و ليس دخول
"الموضوعات" المنفعلة المسيّرة. نحن في حاجة إلى التحديث، أي إلى الانخراط في عصر العلم و التقنية كفاعلين مساهمين. و لكنّنا في حاجة كذلك
إلى مقاومة الاختراق و حماية هويّتنا القومية و خصوصيتنا الثقافية من الانحلال و التلاشي
تحت تأثير موجات الغزو الذي يمارس علينا وعلى العالم أجمع بوسائل العلم والتقنية. و ليست هاتان الحاجتان الضروريتان متعارضتين كما قد يبدو
لأوّل وهلة، بل بالعكس هما متكاملتان، أو على الأصحّ متلازمتان تلازم الشرط مع
المشروط. ذلك لأنّه من الحقائق البديهية في عالم اليوم أنّ نجاح أي بلد من
البلدان، النامية منها أو التي هي في "طريق" النموّ، نجاحها في الحفاظ
على الهويّة و الدفاع عن الخصوصية، مشروط
أكثر من أي وقت مضى بمدى عمق عملية التحديث الجارية في هذا البلد، عملية الانخراط
الواعي، النامي و المتجذّر، في عصر العلم و التقنية و الوسيلة في كلّ ذلك واحدة:
اعتماد الإمكانيات اللامحدودة التي توفّرها العولمة نفسها، أعني الجوانب الإيجابية
منها و في مقدّمتها العلم و التقنية. و هذا ما نلمسه بوضوح في تخطيطات الدول
الأوروبية التي يُدَق في كثير منها ناقوسُ خطر "الغزو الأمريكي"
الإعلامي الثقافي الذي يتهدّدها، في لغتها و سلوك أبنائها و تصوّراتهم الجمعية، و الذي
يوظّف أرقى وسائل العلم و التقنية ـ و منها الأقمار الصناعية ـ في اكتساح مختلف
الحقول المعرفية و الخصوصيات الثقافية. إنّ أوربا اليوم تتحدّث حديث الخصوصية و الأصالة،
و تتحدّث عن "الهويّة الأوربية" تعزيزا لسيرها الجدّي على طريق تشييد
الوحدة بين شعوبها و أقطارها، بخطوات عقلانية محسوبة في إطار من الممارسة
الديموقراطية الحقّ. وهي بذلك تقدّم لمستعمراتها القديمة، لأقطار العالم الثالث كلّه،
نموذجا صالحا للاقتداء به بعد ملاءمته مع الخصوصيات المحلّية. إنّ جلّ الحكومات
العربية، إن لم يكن جميعها، تسعى اليوم لتحقيق "الشراكة" مع أوربا،
الشراكة في مجال الاقتصاد، و أيضا في مجال الثقافة. و مع أنّ هذه الشراكة المطلوبة
تمليها على الجانبين ظرفية تحكمها المصالح القومية فإنّه لا شيء يضمن تحوّلها إلى
عولمة أخرى داخل العولمة الكبرى، غير شيء واحد، هو بناء الشراكة في الداخل كما في
الخارج على الديموقراطية و العقلانية. فهل للشعوب العربية أن تطالب بالشراكة مع
أوربا في مجال اعتماد العقلانية و الديمقراطية، في الفكر و السلوك، في التخطيط و الإنجاز،
في الاقتصاد و السياسة و الاجتماع و الثقافة ؟ العولمة نظام système ،
و النظام لا يقاوم من خارجه إلاّ بنظام مكافئ له أو متفوّق عليه. و نحن في العالم
العربي نعيش حالة اللانظام. ليس لدينا نظام عربي يكافئ النظام العالمي للعولمة.
فلا سبيل إذن إلى مقاومة سلبيات العولمة إلاّ من داخل العولمة نفسها، بأدواتها و بإحراجها
في قيمها و تجاوزاتها. و أيضا بفرض نوع من النظام على الفوضى العربية القائمة،
فوضى اللانظام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق