إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الجمعة، 13 مايو 2016

إنجاز موضوع: الفنّ بين الحقيقة والجمال

قيل: " لنا الفن كي لا تقتُلنا الحقيقة " حلّل القول وناقشه مبيّنا قيمة الفنّ ووظيفته.
التمهيد: يمكن أن نمهّد للموضوع بـ:
* الإشارة الى التوتّر الذي تعرفه علاقة الفنّ بالحقيقة من جهة أنّ الفنّ من ناحية هو تعالٍ عن كلّ حقيقة في الوقت الذي يعمل فيه على تأسيس حقيقة ما.
* أو الانتباه إلى ضروب موضوعات الفنّ وتوظيفاته، ما يدعو إلى اتّخاذ موقف ما من حقيقة الواقع.
أو سقوط الفنّ في البراغماتية مع تحوّلاته المعاصرة ما يدعو إلى إنقاذ الجمال ونحت صورة جديدة عنه.
الإشكالية: ما الفنّ وأي علاقة تربطه بالحقيقة؟ هل أنّه مبدع للجمال من أجل تصوير حقيقة الواقع ومحاكاته؟ أم أنّه يؤسّس حقيقة أرفع ممّا هو محسوس فيستدعينا إلى عالم الجمال الذي يوقظ فينا الوعي بخزي الواقع وقبحه؟ لكن ألا يكون القطع مع الحقيقة من أجل تأثيثها من جديد؟ أم أنّ الجمال الذي يبدعه الفنّ ليس سوى حقيقة هي حقيقة الفنّان ذاته؟ ولكن أليس رهان الفنّ أبعد من الحقيقة ومن الجمال نحو تحرير الإنسان ذاته؟
تحليل الموضوع وفق التمشّي التالي:





لحظة أولى: تحليل الموقف المُثبت في القول إنّ الفنّ ينقذنا من الحقيقة القاتلة وذلك بـ:
* تعريف الفنّ بما هوars يعني المهارة والإتقان ولا يختلف هذا التعريف عن التّحديد العربي الذي يعتبره ضربا من المهارة والصّناعة. وليس بعيدا عن المعنى الإغريقي techné الذي يعني المهارة في إنجاز ما هو عملي، أي مجموع الحركات الدقيقة اللازمة لممارسة تتوسّط المعرفة النظرية والممارسة العفوية. والغاية من ذلك تحقيق منفعة ما.
يعرّف لالاند الفنّ بكونه " كلّ إنتاج للجمال يتمّ بواسطة أعمال ينجزها كائن واع..."، فالفنّ يتميّز حسب المنظور الفلسفي بإنتاج قيم جمالية، تتجسّم في أثر.
* وهو عمل يُحدث فينا إحساسا بلذّة أو متعة، قد تكون انعكاسا لواقع موجود أو تجاوزا لحقيقته.
ما يدعونا إلى السّؤال عن الجمال وعلاقته بالحقيقة.
* تعريف الحقيقة: بمعناها اليوناني أليتيا Aletheia: تعني الكشف أو عدم الخفاء وعدم الاحتجاب، وتفيد تطابق الفكر مع الواقع أو مع ذاته؛ والفنّان هو الذي يضع الحقيقة في العمل الفنّي، وما يعبّر عن ذلك هو الجمال، وهكذا يرتبط إنتـاج الجميل بظهور الحقيقة.
*  السّؤال عن الحقيقة التي ينقذنا منها الفنّ بما هي حقيقة قاتلة: فالحقيقة مراتب وأنواع يحرّرنا منها الفنّ:
 أ) حقيقة الوجود: الفنّ بما هو تجاوز لحقيقة الوجود في مقابل الحقيقة التي تنمّط وتموضع وتشيّء الوجود، لنا الجمال الذي يعيد تسريح ما تعطّل من ذواتنا وإحياء الحيوي فينا بعد إذ جمّدته العقلانية.
* لقد علّمنا الفنّ علـى مـدى آلاف السنين أن ننظر إلى الحياة وإلى كلّ شكل من أشكالها باهتمام ومتعـة، وأن نستدرج أحاسيسنا هذه إلى الحدّ الذي نصرخ فيه: "أيّا تكن هذه الحيـاة فهي جميلة "نيتشه
* الفنّ هو ما وراء الخير والشرّ، براءة وشراهة وجود الجمال ليس فقط أثرا أو عملا بل هو كيفية وجود: حرّية، إقبال، امتلاء، انتشاء (ديونيزوس، زارادشت، زوربا..) فإذا كانت صورة الوجود معقلنة وإذا ما كان العقل مجرّد إخفاء وتمويه كما يقول نيتشه فإنّ الحقيقة التي يصنعها ليست سوى وهم علينا التحرّر منه بالفنّ الذي يُعيدنا إلى الحسّي إلى المشاعر نفسها من دون "رتوش" أو مساحيق مجازية.
"الفنّ العظيم هو الّذي يدرك روح الأشياء، هو الذي يدرك ما يربط الفرد بالكلّ ويربط كلّ جزء من اللحظة بالديمومة الأبديّة " فيو
 ب) حقيقة الذات: المنغمسة في اليوميّ، في الخصوصيّ، في الجسديّ، فيما يشدّنا إلى الغريزة وملذّات الجسد (الحقيقة المادية للذات) فيكون الفنّ وحده القادر على رفعنا نحو حقيقة الذات الرمزية، العاطفية، الإيتيقية فوحده الفنّ قادر على رفع الفنّان عن مستوى الإنسانية إلى مصاف الالهة:
* يريد الرسّام أن يرى جمالاً يفتنه، إذ هو سيّد خلقه؛ فإذا شاء أن يستحضر وحوشا مرعبة، أو مناظر ساخرة ومضحكة، أو أخرى مؤثّرة، فإنّه في ذلك ربّ وسيّد. دي فنشي
"وجد الفنّ كي يوقظ فينا شعور الجمال " هيغل
"فقبل أن تشعّ الحقيقـة في أعماق القلب، يكتشف الخيال ملامحها، لأنّ قمم جبال الإنـسانية تبـدو متوهّجة في الوقت الذي يخيّم الظلام في أوديتها" ماكس شيلر
" الجمال ليس صفة في الشيء المدروس بقدر ما هو الأثر الذي ينشأ في الإنسان نفسه الدّارس لذلك الشيء. سبينوزا
فتكون نحو رمزية تصنعها الذات نفسها لنفسها أليس الفنّ كما قال قادامار "الفنّ، لعب ورمز واحتفال" ألم يقل ماركس "إنّ الموسيقى الأكثر كمالا بالنسبة للأذن التي لا تكون موسيقيّة هي لا معنى لها "فتكون حقيقة الفنّ الوحيدة هي تلك التي يؤسّس لها الفنّان ويجسّدها العمل الفنّي خالصا فيكون " الفنّ هو وضع الحقيقة نفسها في العمل الفنّي كما يقول هيدغـر في تحليله للوحة الحذاء لفان غوغ.
الفنّ يؤسّس لحقيقة جديدة مبتدعة:
* متخيّلة: بالمعنى الفرويدي بما هو إشباع خيالي لرغبات لاشعورية، رغبات مكبوتة يقول فرويد "ينسحب الفنّان كالعصابي، من واقع لا يرضِي إلى دنيا الخيال هذه، ولكنّه على خلاف العصابي، يعرف كيف يقفل منه راجعا ليجد مقاما راسخا في الواقع."
* متعقّلة: من جهة أنّ الفنّ هو نتاج الفكر وهو تجلٍّ للروح بالمعنى الهيجلي"لا يبدو الجمال في الطبيعة إلاّ انعكاسا للجمال في الذهن" فالجمال الفنّي أسمى من الجمال الطبيعي وإنّ " أبسط فكرة تعبر عقل أغبى طفل لَهِيَ أسمى ممّا تنتجه الطبيعة ".
* نتاج الموهبة والفطرة: إذ الفنّ كما هو عند كانط مجرّد" لعب حرّ للمخيّلة " للملكات، للإبداع الذاتي المتحرّر من كلّ قيود الواقع الموضوعي أو المشاعر الفجّة. والموهبة ملكة فطرية خاصّة بالفنّان وتنتمي بذاتها إلى الطبيعة. ومن ثمّ فإنّ العبقرية هي استعداد عقلي فطري تقوم من خلالها الطبيعة بإعطاء القاعدة أو القانون للفنّ. يقول كانط: " إنّ العمل الفنّي هو العمل الوحيد الذي لا نملك مهارة صنعه حتّى ولو كانت معرفتنا به معرفة تامّة" فهو "غائية من دون غاية".
*وليد المتعة: وليد إرادة الحياة عند "الإنسان الأرقى" بتعبير نيتشه " لقد علّمنا الفنّ علـى مـدى آلاف السنين أن ننظر إلى الحياة وإلى كلّ شكل من أشكالها باهتمام ومتعـة، وأن نستدرج أحاسيسنا هذه إلى الحدّ الذي نصرخ فيه: "أيا تكن هذه الحيـاة فهي جميلة".
استتباعات هذا الموقف:
* الفنّ موضوعه الجمال وهو حقيقة الفنّ ذاته
* الفنّ يتجاوز الواقع الموضوعي والواقع الذاتي في ماديته الفجّة ليؤسّس لحقيقة رمزية تتحرّر من معايير المعرفة المنطقية.
* تصوير الطبيعة ينزل بالفنّ إلى مراتب المحاكاة والتقليد.
* حقيقة الفنّ في المتعة ولعبة التخييل.
لحظة ثانية: الفنّ ليس شأنه الاهتمام بالحقيقة بل الانشغال بالجمال، ذلك:
* أنّنا نعيش محكومين ببراديغم نفعي لا يُرينا الواقع كما هو في ديمومته واتّصاله بل في حدود ما تسمح به حاجاتنا، ومن ثمّت فكلّ فهم أو تعقّل أو تعبير أو حكم لا يقول الحقيقة الأصلية للواقع ومن ثمّ فلم يعد لمفهوم الحقيقة معنى في عالم تحكمه المنفعة.
* أنّ تحوّل الفنّ إلى تجربة معنى” إنّ المصوّر ينبغي أن يخترقه العالم لا أن يخترق هو العالم.. إنّي أنتظر أن أكون مغمورا داخليا ومدفونا، إنّني أصوّر لكي أبزغ. “موريس ميرلوبوتني.
* أنّ الفنّ تجربة إيتيقية للجمال: تصل الجميل بالخير (اشتراك المعايير الجمالية والأخلاقية: الحسن / القبيح، بما يرادف الخير والشرّ) الجميل تهذيب للطبيعة الإنسانية يرقى بها إلى مستوى الأخلاقية السامية (التطهّر) للجمال إذ يؤهّلنا للجلال.
* أنّ الجمال تحرّر ووعد بالسّعادة.” إنّ صفات الفنّ الجذرية، أي وضع الواقع القائم موضع اتّهام واستحضار صورة جميلة للحياة، ترتكز تحديدا على الأبعاد التي بها يتجاوز الفنّ تعيينه الاجتماعي وينعتق من عالم القول والسلوك المتواضع عليهما" إلى "سيطرة مبدأ النجاعة والمردودية على كلّ أبعاد الحياة الإنسانية. فهيمنة مبدأ النجاعة أنتج” ذاتا بلا أفق“ تظلّ أسيرة نزعة تقنوية تعمل على تبضيع منتجات الفنّ واستيعابها ضمن ذهنية الاستهلاك ـفالخيال الفنّي لا يمكن تنميطه ومأسسته.  
* الجمال تحرير للإنسان من خصوصيته ومن ذاتيته الضيّقة نحو الانفتاح على الكوني” إنّ الإنسان بحاجة إلى أن يكون أكثر ممّا هو، فهو بحاجة إلى أن يكون إنسانا كلّيا، وهو لا يكتفي بأن يكون فردا منعزلا، وهو من خلال سأمه الذي يشكّل الطابع الجزئي لحياته الفردية يطمح إلى الخروج نحو كلّية يرجوها ويطلبها، إلى كلّية الحياة “ فيشر.
استتباعات الموقف:
وظيفة الفنّ لم تعد ذوقية أو جمالية أو حتّى معرفية بل أصبحت اليوم في مواجهة عالم الاستهلاك "المسلعن" لقيم الجمال ثورية تعمل على تحرير الإنسان ذاته إذ " ينبغي أن يكون الفنّ حرّا، فحيثما لا توجد حرية، لا يوجد فنّ " كما يقول أرسان بوسات. فالفنّ يحرّرنا من:
* القيم النفعية قيم المردودية والمصلحة والنجاعة لتصبح للفنّ مهمّة أخلاقية تربوية.
* الفردية الضيّقة والأنانية نحو تأصيل قيم اجتماعية تجعله ينصهر أكثر فأكثر مع الجماعة أو الطبقة ليصبح للفنّ رسالة سياسية." إنّ الفنّ لا يستطيع أن يغيّر العالم، لكنّه يستطيع الإسهام في تغيير وعي الرّجال والنساء وغرائزهم الذين يمكنّهم أن يغيّروا العالم" ماركوز.
 الهادي عبد الحفيظ – معهد المنارة.   قابس     يمكنكم الاتّصال بالأستاذ على صفحته الخاصّة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق