مشهد الفلسفة المعاصرة: الفلسفة الفرنسية نموذجا
محمد أندلسي
محمد أندلسي
الفلسفة الفرنسية كنموذج:
سنبدأ حديثنا عن المشهد الفلسفي الفرنسي المعاصر من خلال إثارة المفارقة التالية: إنّ "المسألة التي تبدو أكثر كونية و شمولية، هي في الوقت ذاته الأكثر خصوصية و فرادة". إنّ هذا يشبه ما يطلق عليه هيجل "الكلّي الملموس". و يبدو أنّ تاريخ الفلسفة يجلي هذه المفارقة على نحو بيّن: فكلّ فلسفة هي من جهة كلّية و شمولية حيث تتوجّه إلى الجميع بدون استثناء؛ و لكن ومن جهة أخرى، في كلّ فلسفة يوجد الكثير من الخصوصيات الثقافية و القومية و التاريخية. هناك إذن لحظات للفلسفة في الزمان و المكان. فالفلسفة إذن هي من جهة نزوع شمولي للعقل، وهي في الوقت ذاته لا تتجلّى إلاّ عبر لحظات هي في مجملها خاصّة و فريدة و أصيلة. يقدّم لنا
باديو في محاضرة قيّمة [1]، مثالين أو لحظتين فلسفيتين بارزتين: لحظة الفلسفة الإغريقية و لحظة الفلسفة المثالية الألمانية. فالأولى التي تقع ما بين القرنين الخامس و الثالث قبل الميلاد و التي تمتدّ من بارمنيدس إلى أرسطو، ثمثّل ما يمكن اعتباره لحظة التأسيس و الإبداع الفلسفيْين وهي لحظة استثناء قصيرة العمر في الزمان نسبيا. و المثال الثاني هو الذي تجسّده لحظة الفلسفة المثالية في ألمانيا ما بين القرنين ـ نهاية القرن الثامن عشر و بداية القرن التاسع عشرـ وهي التي تمتدّ من كانط إلى هيجل، و من فيخته إلى شيلنغ. فهذه أيضا تمثّل لحظة فلسفية استثنائية كثيفة و خلاّقة، و تمثّل أيضا فترة قصيرة جدّا من الناحية الزمنية. على غرار هاتين اللحظتين يمكن أن نتحدّث عن لحظة فلسفية فرنسية تتموضع ما بين النصف الثاني من القرن العشرين و بداية القرن الواحد و العشرين. يمكن مقارنتها مع اللحظات الفلسفية الآنفة الذكر لنأخد كمثال على هذه اللحظة، مؤلّف "الوجود و العدم" ـ وهو المؤلّف الأساسي لسارتر الذي ظهر سنة 1943، و آخر كتاب لدولوز "ما هي الفلسفة ؟" الذي ظهر في بداية التسعينات من القرن العشرين. ما بين سنة 1943 و نهاية القرن العشرين، تبلورت لحظة الفلسفة الفرنسية. و ما بين سارتر و دولوز، يمكن أن نتحدّث عن باشلار، وميرلوبونتي، و لفي ستراوش و ألتوسير و فوكو و دريدا، و لاكان. مجموع هذه الكتابات التي تتموضع ما بين المؤلّف الأساسي لسارتر و آخر مؤلّفات دولوز، هي التي تشكّل ما اعتبرناه يمثّل لحظة الفلسفة الفرنسية المعاصرة. إنّها تمثّل بحقّ لحظة فلسفية جديدة، لا تخلو من أصالة و فرادة و خصوصية و إبداع، و في الوقت ذاته تتّسم بطابع الكونية و الشمولية. و المشكل الذي يواجهنا هنا يتمثّل في كيفية التعرّف على هذه الكلّية، و تحديد سمات و تقاطعات و اختلافات هذا المجموع المتعدّد و المتنوّع من النماذج و المؤلفّات و الاهتمامات؟
باديو في محاضرة قيّمة [1]، مثالين أو لحظتين فلسفيتين بارزتين: لحظة الفلسفة الإغريقية و لحظة الفلسفة المثالية الألمانية. فالأولى التي تقع ما بين القرنين الخامس و الثالث قبل الميلاد و التي تمتدّ من بارمنيدس إلى أرسطو، ثمثّل ما يمكن اعتباره لحظة التأسيس و الإبداع الفلسفيْين وهي لحظة استثناء قصيرة العمر في الزمان نسبيا. و المثال الثاني هو الذي تجسّده لحظة الفلسفة المثالية في ألمانيا ما بين القرنين ـ نهاية القرن الثامن عشر و بداية القرن التاسع عشرـ وهي التي تمتدّ من كانط إلى هيجل، و من فيخته إلى شيلنغ. فهذه أيضا تمثّل لحظة فلسفية استثنائية كثيفة و خلاّقة، و تمثّل أيضا فترة قصيرة جدّا من الناحية الزمنية. على غرار هاتين اللحظتين يمكن أن نتحدّث عن لحظة فلسفية فرنسية تتموضع ما بين النصف الثاني من القرن العشرين و بداية القرن الواحد و العشرين. يمكن مقارنتها مع اللحظات الفلسفية الآنفة الذكر لنأخد كمثال على هذه اللحظة، مؤلّف "الوجود و العدم" ـ وهو المؤلّف الأساسي لسارتر الذي ظهر سنة 1943، و آخر كتاب لدولوز "ما هي الفلسفة ؟" الذي ظهر في بداية التسعينات من القرن العشرين. ما بين سنة 1943 و نهاية القرن العشرين، تبلورت لحظة الفلسفة الفرنسية. و ما بين سارتر و دولوز، يمكن أن نتحدّث عن باشلار، وميرلوبونتي، و لفي ستراوش و ألتوسير و فوكو و دريدا، و لاكان. مجموع هذه الكتابات التي تتموضع ما بين المؤلّف الأساسي لسارتر و آخر مؤلّفات دولوز، هي التي تشكّل ما اعتبرناه يمثّل لحظة الفلسفة الفرنسية المعاصرة. إنّها تمثّل بحقّ لحظة فلسفية جديدة، لا تخلو من أصالة و فرادة و خصوصية و إبداع، و في الوقت ذاته تتّسم بطابع الكونية و الشمولية. و المشكل الذي يواجهنا هنا يتمثّل في كيفية التعرّف على هذه الكلّية، و تحديد سمات و تقاطعات و اختلافات هذا المجموع المتعدّد و المتنوّع من النماذج و المؤلفّات و الاهتمامات؟
لنبدأ ـ مُقتفِين في ذلك أهمّ خطوات محاضرة باديو المشار إليها آنفا ـ بطرح الأسئلة التالية: ما الذي طرأ على مستوى المشهد الفلسفي ما بين سنة 1940 و نهاية القرن 20 ؟ ما الذي تعنيه نعوت مثل الوجودية، البنيوية، التفكيكية ؟ هل يمكن أن نتحدّث عن وحدة فكرية و تاريخية لهذه اللحظة ؟ و إذا كان الجواب بالإيجاب، فما طبيعة تلك الوحدة ؟ يجيب باديو عن هذه الأسئلة انطلاقا من أربع كيفيات مختلفة يصوغها في أربعة أسئلة: السّؤال الأوّل يتعلّق بالأصل، و الثاني يتعلّق بالإجراءات، و الثالث يتعلّق بعلاقة الفلسفة بالأدب، و الرابع يتعلّق بعلاقة الفلسفة بالتحليل النفسي.
ـ 1 ـ مسألة الأصل:
للتفكير في أصل هذه اللحظة الفلسفية الفرنسية المعاصرة يجب الصعود إلى بداية القرن 20 حيث حدث انقسام أساسي داخل الفلسفة الفرنسية، كان نتيجته تشكّل تيّاران مختلفان بشكل جذري. و من بين معالم هذا الانقسام نجد المحاضرتين المشهورتين اللّتان ألقاهما برغسون سنة 1911 في أكسفورد، و تمّ نشرهما في "مقتطفات برغسون" تحت عنوان "الفكر و الحركة". و في نفس التاريخ و بالضبط سنة 1912 ظهر كتاب برنشفيك الذي يحمل عنوان "مراحل الفلسفة الرياضية". هذان التدخّلان قد تمّا قبل حرب 1914، أي بداية الحرب العالمية الأولى. و هما يشيران إلى وجود توجّهين مختلفين بشكل حادّ. ففي حالة برغسون نكون أمام ما يمكن أن نطلق عليه "الفلسفة الجوانية"، أو "الباطنية الحيوية" Philosophie de l’intériorité vitale. يتعلّق الأمر بأطروحة التماهي و التطابق بين الوجود و التغيّر، بين فلسفة الحياة و الصيرورة. إنّ هذا التوجّه سيحافظ على استمراريته طوال القرن 20، و سنجد له حضورا حتّى في فكر دولوز. في كتاب برنشفيك نكتشف "فلسفة للمفهوم" ذات مرتكز رياضي. يتعلّق الأمر هنا بإمكانية بناء صوري للفلسفة و بفلسفة للرّمزي. و هذا التوجّه بدوره استمرّ طوال القرن و خاصّة مع كلّ من لفي ستراوس، وألتوسير، ولاكان.
كخلاصة أولى إذن، عرفت بداية القرن 20 أوّل انقسام في الفلسفة الفرنسية المعاصرة: فمن جهة هناك "فلسفة الحياة"، و من جهة أخرى هناك "فلسفة المفهوم". و هذا المشكل، أعني مشكل الحياة و المفهوم سيصبح هو المسألة المركزية للفلسفة الفرنسية حتّى اليوم. فبموازاة النقاش الدائر حول الحياة و المفهوم، هناك نقاش حول "الذات". و يمكن اعتباره بمثابة النقاش المنظّم للمرحلة بكاملها. لماذا ؟ لأنّ الذات الإنسانية هي جسد حيّ و مبدع للمفاهيم في الوقت نفسه. فالذات إذن هي القاسم المشترك بين التوجّهين، حيث يتمّ مساءلتها من حيث حياتها: حياتها الذاتية، حياتها البهيمية، حياتها العضوية هذا من جهة. و من جهة أخرى يتمّ مساءلتها من حيث فكرها و مفاهيمها و تصوّراتها، و من حيث قدرتها الإبداعية، و قدرتها التجريدية. فالعلاقة بين الجسد و الفكرة، بين الحياة و المفهوم، هي النّاظم لصيرورة الفلسفة الفرنسية. و هذا الصراع الفكري حاضر مند بداية القرن مع برغسون و برنشفيك. و إذا جاز لنا أن نستعير من كانط تعريفه للفلسفة كحقل لنزاع تدور رحاه بين الفلاسفة، فيمكن القول بأنّ المعركة المركزية للفلسفة في النصف الثاني من القرن 20 ستكون معركة تدور حول "مسألة الذات". و من أهمّ معالمها يمكن أن نذكر ما يلي:
& فألتوسير يعرّف التاريخ كصيرورة بدون ذات، كما يعتبر "الذات" مقولة إيديولوجية.ـ كما أنّ دريدا في تأويله لهايدغر، يعتبر "الذات" المقولة الأساسية للميتافيزيقا.
& أمّا لاكان فهو ـ لكي يترك جانبا مركزية الذات لدى سارتر وميرلوبونتي ـ يبتكر مفهوما أصيلا عن الذات.
هكذا فالكيفية الأولى لتحديد "اللحظة" الفلسفية الفرنسية هي تحديدها باعتبارها معركة تدور رحاها حول مفهوم "الذات"، لأنّ السؤال الأساسي فيها هو العلاقة بين المفهوم و الحياة، إنّه في آخر المطاف سؤال حول مصير الذات. و نستشف من هذا الاستنتاج بأنّ الإشكال المعاصر يحمل أثر الديكارتية، و بأنّ الفلسفة الفرنسية للنصف الثاني من القرن 20 هي عبارة عن نقاش ممتدّ و موسّع حول ديكارت. بما أنّ هذا الأخير هو المؤسّس للذاتية في الفلسفة و المبتكر لمقولة الذات. بل أكثر من ذلك يمكن إرجاع انقسام الفلسفة الفرنسية و الصعود بجذوره إلى الطابع المتناقض للإرث الديكارتي نفسه: فديكارت هو في الوقت نفسه صاحب نظرية الجسد الفيزيائي، الجسد / الحيوان / الآلة، و منظّر للرّوح و التأمّل الخالص. إنّه يهتمّ بمعنى من المعاني بـ"فيزياء الأشياء"، و بـ"ميتافيزيقا الذات". و هذا ما يجعلنا نعتبر بأنّ الفلسفة المعاصرة هي بشكل من الأشكال قراءة نقدية مستمرّة للإرث الديكارتي. بل إنّ لاكان لا يني يعلن بأنّه لا يفعل سوى العودة إلى ديكارت. و يوجد لدى سارتر مقال هامّ حول مفهوم الحرّية لدى ديكارت. كما نجد لدى دولوزـ أسوة بنيتشه ـ نوعا من "التوجّه" المناهض لديكارت. و هذا يدلّ على أنّ هذه المعركة الفلسفية هي في آخر المطاف معركة حول دلالة الديكارتية.
هكذا فالأصول تقدّم لنا تعريفا أوّليا لهذه اللحظة الفلسفية بما هي "معركة مفهومية" متمحورة حول سؤال الذات.
ـ 2 ـ مسألة الإجراءات:
في المرحلة الثانية سنحاول تحديد إجراءات فكرية مشتركة لدى الفلاسفة المعاصرين. فهناك أربع إجراءات تحدّد الكيفية التي تمارس بها الفلسفة وهي إجراءات منهجية:
الإجراء الأوّل: هو إجراء ألماني، أو بشكل أدقّ هو إجراء فرنسي حول الفلاسفة الألمان. فكلّ الفلسفة الفرنسية للنصف الثاني من القرن 20 هي مناقشة للإرث الألماني. و هناك لحظات جدّ هامّة في هذا النقاش: نذكر، على سبيل المثال، مناظرة كوجيف حول هيجل في الثلاثينات و التي تتبّعها لاكان، و أثّرت بقوة على لفي ـ ستراوس. بعد ذلك هناك اكتشاف للفينومنولوجيا من قبل فلاسفة الثلاثينيات و الأربعينيات، و ذلك عبر قراءة هوسرل وهايدغر. فسارتر على سبيل المثال قد غيّر منظوره أثناء قراءته لنصوص كلّ من هوسرل وهايدغر ـ خلال إقامته في برلين. أمّا دريدا فهو قبل كلّ شيء قارئ و مؤوّل أصيل للفكر الألماني. ثمّ هناك نيتشه، الفيلسوف الأساسي بالنسبة لفوكو و دولوز.
يمكن القول إذن بأنّ الفرنسيين أخذوا يبحثون عند الألمان: عند كانط، هيجل، نيتشه، هوسرل، وهايدغر، عن شيء ما كانت تفتقر إليه فلسفتهم. ما هو هذا الشيء ؟ إنّه بعبارة مركّزة: البحث عن علاقة جديدة بين المفهوم و الوجود. و لقد اتّخذ هذا البحث عدّة نعوت و أوصاف: كالتفكيكية، الوجودية، الجنيالوجيا، الهيرمينوطيقا.. و لكن عبر جميع هذه الأسماء هناك رغبة و بحث مشتركين يتمثّلان في السعي إلى تحويل و تغيير و زحزحة العلاقة بين المفهوم و الوجود، بين المعرفة و الحياة. فكما أنّ سؤال الفلسفة الفرنسية منذ بداية القرن قد كان هو سؤال المفهوم و الحياة، فإنّ هذا التحوّل في الفكر، في علاقة الفكر بتربته الحيّة قد شغل اهتمام الفلسفة الفرنسية. إنّه الإجراء الألماني: أي العثور في الفلسفة الألمانية عن أدوات و آليات جديدة لمقاربة و معالجة العلاقة بين المفهوم و الوجود. إذن فالإجراء الأوّل هو إجراء التملّك الفرنسي للفلسفة الألمانية. و بموجب هذا التملّك صارت الفلسفة الألمانية ـ في ترجمتها الفرنسية، و في حقل معركة الفلسفة الفرنسية ـ شيئا جديدا.
الإجراء الثاني: الذي لا يقلّ أهمّية عن الأوّل يتعلّق بالعلم. لقد أراد الفلاسفة الفرنسيون في النصف الثاني من القرن 20 أن ينتزعوا العلم من حقل فلسفة المعرفة، بإظهار بأنّ العلم نشاط مبدع و منتج و ليس مجرّد تأمّل و معرفة. لقد أرادوا العثور في العلم عن نماذج للابتكار و التحويل، فعملوا على نقله من مجال انكشاف الظواهر و تنظيمها إلى مجال النشاط الإبداعي على غرار العمل الفنّي و الفلسفي. هذه السيرورة ستجد صداها و تحقّقها في آخر كتاب لدولوز حيث سيقارن، بشكل لا يخلو من دقّة و حميمية، الإبداع العلمي بالإبداع الفنّي ثمّ الفلسفي.
الإجراء الثالث: هو إجراء سياسي، ففلاسفة هذه الفترة أرادوا إدراج الفلسفة كنشاط ملتزم في المجال السياسي. هذا ما تجلّى بشكل واضح لدى كلّ من سارتر وميرلوبونتي، وفوكو وألتوسير ودولوز. فكلّ هؤلاء كانوا يجمعون بين الإبداع الفلسفي و النشاط السياسي. بل عبر هذا النشاط كانوا يسعون للبحث عن علاقة جديدة ما بين المفهوم و الفعل، ما بين النظرية و الممارسة. فكما أنّه بالنسبة للألمان، كانوا يبحثون عن علاقة جديدة ما بين المفهوم و الوجود، فإنّ الفلاسفة الفرنسيين في هذه الحقبة، كانوا يبحثون بدورهم عن الكيفية التي يمكن بها ترجمة المفهوم إلى فعل. "فالرغبة الأساسية للزجّ بالفلسفة في أوضاع سياسية تقتضي تغيير العلاقة ما بين المفهوم و الفعل". و أخيرا فإنّ
الإجراء الرابع: هو الإجراء التحديثي. يتعلّق الأمر بتحديث الفلسفة قبل تحديث الفعل أو الحكم السياسي. و يعني هذا الإنصات لنبضات العصر، و معاينة عن قرب للتحوّلات الاجتماعية و الثقافية و الفنّية، و الخلخلة التي تتعرّض لها الأعراف و العادات و التقاليد. لقد كان هناك اهتمام فلسفي قوي بالصباغة اللاتجسيدية La peinture non- figurative و بالموسيقى الجديدة، و المسرح، و الرواية البوليسية، و الجاز، و السينما. لقد كانت هناك إرادة جامحة لتقريب الفلسفة من كلّ ما هو حيّ و كثيف في العالم الحديث. كما كان هناك اهتمام بالجنس، و بأساليب الحياة الجديدة، و عبر كلّ هذا تبحث الفلسفة عن علاقة جديدة بين المفهوم و حركة الأشكال: أشكال الحياة و الفنّ و الثقافة و التعبير. الإجراء التحديثي إذن تمثّل أساسا في البحث عن كيفية جديدة للفلسفة لجعلها تقترب من إبداع الأشكال. هذه اللحظة الفلسفية كانت إذن عبارة عن عملية تملّك جديد للإبداع الألماني، و رؤية مبدعة للعلم، و راديكالية سياسية، و بحث عن أشكال جديدة للفنّ و الحياة. و عبر كلّ هذه التمظهرات حاولت هذه الفلسفة أن تغيّر "سياسة المفهوم"، و خلخلة العلاقة التي يقيمها المفهوم مع "الخارج"، و مع آخره. وهو الذي يعني محاولة إقامة علاقة جديدة مع الوجود و الفكر و العمل و حركة الأشكال.
ـ 3 ـ علاقة الفلسفة بالأدب:
بل يمكن القول بأنّ هذه الجدّة في العلاقة ما بين المفهوم الفلسفي و ما يوجد خارج هذا المفهوم، هي التي كانت وراء الجدّة العامة للفلسفة الفرنسية خلال القرن 20. طبعا هذا المسعى قد دفع بالفلسفة إلى التساؤل حول شكلها هي أيضا. و بطبيعة الحال فلا يمكن إحداث أي انزياح في المفهوم، دون ابتكار أشكال فلسفية جديدة، أي دون ابتكار أساليب جديدة في الفلسفة [2]. فكان إذن من الضروري العمل على تحوير لغة الفلسفة و ليس الاكتفاء فقط بخلق مفاهيم جديدة. لقد اقتضى ذلك من الفلسفة أن تقيم علاقة جديدة خاصّة مع الأدب، و التي هي أحد السمات البارزة للفلسفة الفرنسية في القرن العشرين. بل يمكن النظر إلى هذه القضية ـ أقصد مسألة الأدب ـ باعتبارها ليست استثناءا في تاريخ الفكر الفرنسي، بل تحيل إلى تاريخ طويل في فرنسا، حيث جلّ الذين كانوا يعتبرون فلاسفة في القرن 18، كانوا في الوقت ذاته يعدّون من كبار الكتّاب الذين ينتمون إلى ما يسمّى بالأدب الكلاسيكي. يوجد في فرنسا الكثير من المؤِلّفين لا ندري إن كانوا ينتمون إلى الأدب أم إلى الفلسفة، مثل باسكال، فولتير، ديدرو… هناك في هذا التاريخ إذن علاقة، ما بين البرنامج الشعري و الأدبي و البرنامج الفلسفي، وهي العلاقة التي جسّدتها السريالية. إذ لعبت هذه الأخيرة دورا هامّا في تقوية العلاقة ما بين الأدب و الفلسفة، و ذلك من خلال سعيها إلى ابتكار أساليب و أشكال جديدة للحياة. غير أنّه ابتداء من الخمسينات و الستينات من القرن20، فإنّ الفلسفة هي التي ستنتدب نفسها لابتكار شكلها الأدبي الملائم و الخاصّ بها، و ذلك من خلال إيجاد العلاقة التعبيرية المباشرة ما بين العرض الفلسفي أو الأسلوب الفلسفي، و الانزياح المفهومي الذي تقترحه. و لقد كان نتيجة ذلك كلّه تحوّلا طريفا في الكتابة الفلسفية، و هذا ما تجليه كتابة كلّ من بلونشو، و فوكو، و دولوز، و لاكان، و دريدا، وهي كما نعلم كتابة شكّلت قطيعة حقيقية مع تقليد الكتابة السابقة. كلّ هؤلاء الفلاسفة حاولوا أن يبلوروا أسلوبا فلسفيا خاصّا بهم، و أن يبتكروا كتابة جديدة [3]، و بكلمة واحدة لقد أرادوا أن يكونوا كتّابا. إنّنا نعثر لدى دولوز كما لدى فوكو عن شيء جديد تماما في حركة الجملة لديهما. حيث أصالة العلاقة ما بين الفكر و حركة الجملة، و حيث هناك إيقاع توكيدي جديد غير مسبوق، و معنى للصياغة لا يخلو هو أيضا من الابتكار. لدى دريدا نعثر على علاقة معقّدة و شغوفة من اللغة إلى اللغة و اشتغال للغة على ذاتها حيث الفكر يمرّ عبر عمل اللغة على نفسها. لدى لاكان نعثر على تركيب معقّد يكاد لا يشبه غير تركيب مالارمي ممّا يجعله تركيبا شعريا. هناك إذن تحوّل جذري في أسلوب الفلسفة و محاولات لخلخلة الحدود ما بين الفلسفة و الأدب. و يجب أن نتذكّر أيضا بأنّ كلاّ من سارتر و باديو من بعد، يميلان إلى الدراما و الرواية. إنّ خصوصية هذه الفلسفة إنّما تتمثّل في قدرتها على اللعب على عدّة سجّلات للغة، و زحزحة الحدود ما بين الفلسفة و الأدب، و ما بين الفلسفة و المسرح [4]. بل يمكن القول بأنّ أحد أهداف هذه الفلسفة الفرنسية إنّما يتمثّل في العمل على خلق فضاء جديد للكتابة، فضاء لكتابة جديدة حيث الأدب و الفلسفة يصبحان غير متمايزين، فضاء لن يكون هو فضاء الفلسفة الخالصة، و ليس فضاء للأدب الخالص، و لكنه سيكون فضاء كتابة لا يمكن التمييز فيه بين الأدب و الفلسفة، بمعنى لا يمكن التمييز فيه بين المفهوم و الحياة؛ ذلك لأنّ هذا الابتكار في الأخير، يتمثّل في إعطاء للمفهوم حياة جديدة، إنّها حياته الأدبية. إذ عبر هذه الكتابة تتمّ بلورة الذات الجديدة، و بلورة معرفة جديدة حول الذات. فالذات منذ الآن لا يمكن أن تكون دعوة للعودة إلى الذات الواعية العاقلة ذات الكوجيطو الديكارتي [5]. إنّها لا يمكن أن تكون هي الذات المتأمّلة، بل هي أشدّ انغماسا في الحياة و محايثة للجسد و أوسع من الوعي و الشعور [6].
ـ 4 ـ علاقة الفلسفة بالتحليل النفسي:
لهذا يشكّل التحليل النفسي طرفا أساسيا في الحوار الذي تجريه الفلسفة المعاصرة، لأنّ الابتكار الأساسي لفرويد في عمقه إنّما يتمثّل في خلخلة المفهوم الأنواري عن الذات، و بلورة تصوّر جديد عنه. فما أدخله فرويد عبر مفهوم اللاشعور، هو اعتبار أنّ رقعة الذات هي أوسع و أشمل من رقعة الوعي. إذ الذات تشمل الوعي و لكنّها غير قابلة للاختزال فيه. و هذه هي الدلالة الأساسية للاشعور عند فرويد. يترتّب عمّا سبق أنّ الفلسفة الفرنسية المعاصرة قد دخلت في حوار واسع و ممتدّ مع التحليل النفسي، وهو الحوار الذي يطبع اليوم المشهد الفكري المعاصر. و لقد تجلّى رهان ذلك الحوار في كونه قد كان وراء انقسام الفلسفة الفرنسية المعاصرة منذ مطلع القرن العشرين إلى تيّارين: فهناك من جهة "النزعة الحيوية الوجودية" Le vitalisme existentiel و التي تجد أصلها لدى برغسون، و تمرّ عبر سارتر و فوكو و دولوز، و هناك من جهة أخرى ما يمكن نعته "بالشكلانية المفهومية" و التي نعثر عليها لدى برنشفيك و تمرّ عبر ألتوسير و لاكان. إنّ المسألة التي تشكّل تقاطعا بين الاتّجاهين ـ أقصد النزعة الحيوية و النزعة الشكلانية ـ هي مسالة الذات، ذلك لأنّ الذات هي في آخر المطاف، الكائن المبدع للمفهوم. و بمعنى ما فإنّ اللاشعور الفرويدي هو الوجه الآخر للذات، فهو أيضا شيء موجود حامل أو مصدر للمفهوم. فكيف يمكن للموجود أن يحمل مفهوما ؟ كيف يمكن لشيء فكري أو مفهومي أن يخلق انطلاقا من الجسد؟ إنّه السؤال المركزي. لهذا كانت العلاقة التي ربطت الفلسفة بالتحليل النفسي علاقة كثيفة لا تخلو من مفارقة و تناقض. إذ يمكن توصيفها بأنّها علاقة انبهار و عشق و في الوقت نفسه علاقة صراع و عدوانية. إنّها علاقة تنافس و تواطؤ في الوقت ذاته. هي علاقة تواطؤ لأنّ الأمر يتعلّق بعلاقة بين طرفين يعملان نفس الشيء، وهي علاقة تنافس لأنّهما يعملانه بشكل مختلف. لهذا شكّلت تلك العلاقة مشهدا عنيفا و معقّدا.
هناك ثلاثة نصوص تساعدنا على تكوين فكرة عن تلك العلاقة:
t النصّ الأوّل هو بداية كتاب باشلار المنشور بتاريخ 1938، و الذي يحمل عنوان "التحليل النفسي للنار"، إذ يجلي لنا بوضوح تلك العلاقة. فباشلار يقترح هنا تحليلا نفسيا جديدا يستند إلى حقل الشعر و مجال الحلم، هو أشبه بالتحليل النفسي للأسطقسات الأربعة: النار، الماء، الهواء، التراب. يتعلّق الأمر بتحليل نفسي ابتدائي و أوّلي. و في العمق، يمكن القول بأنّ باشلار يحاول أن يضع محلّ "الإكراه الجنسي" الذي هو خاصّ بفرويد، الاستحلام la rêverie، و أن يبيّن بأنّ "الحلم" هو شيء أكثر شمولية و اتّساعا، و أكثر انفتاحا من الإكراه الجنسي.
t النص الثاني: هو نهاية كتاب "الوجود والعدم" لسارتر، و الذي يقترح فيه هو أيضا بلورة تحليل نفسي جديد، يطلق عليه اسم "التحليل النفسي الوجودي"، حيث تجد علاقة تواطؤ / تنافس ـ الآنفة الذكرـ تجسيدها البيّن. إنّه يقيم تعارضا بين تحليله الوجودي و التحليل الفرويدي الذي يلقّبه "بالتحليل النفسي الإمبريقي". هكذا فإذا كان باشلار أراد استبدال الإكراه الجنسي بالحلم، فإنّ سارتر يريد إحلال محلّ "مركّب أوديب" complexe d’oeudip، بما هو يشكّل بنية اللاشعور، ما يسمّيه "بالمشروع" le projet. فما يحدّد الذات لدى سارتر ليس هو بنية عصابية أو اختلال بنيوي، و إّنما هو مشروع أساسي، إنّه "مشروع وجود".
t النصّ الثالث: هو الفصل الرابع لكتاب دولوز وغاتاري "ضدّ أوديب"، حيث يتمّ فيه استبدال التحليل النفسي، بمنهج آخر يطلق عليه دولوز "التحليل السكيزوفريني" La schizoanalyse. إنّ الوجه الطريف في هذه المسألة يكمن في أنّ ثلاثة من كبار الفلاسفة، يرومون استبدال التحليل النفسي بشيء مثله و لكنّه مختلف عنه: باشلار يريد إحلال الحلم محلّ الجنس، و سارتر يريد إحلال المشروع محلّ العقدة، و دولوز يريد إحلال البناء محلّ التعبير لأنّ التحليل النفسي، في نظره، لم يعمل سوى التعبير عن قوى اللاشعور بينما المطلوب هو بناؤه. هكذا و على مستوى الأهداف يبدو أنّنا أمام مشروع فلسفي جديد، و أعتقد بأنّ هذه اللحظة الفلسفية المعاصرة تتحدّد بما هي عبارة عن لحظة فلسفية حاملة "لمشروع فكري". ممّا لا شكّ فيه أنّ الفلاسفة هنا مختلفون، و أنّ البرنامج بحكم ذلك سيتمّ تناوله بكيفية مختلفة. لكنّ مع ذلك يمكن من الناحية التاريخية تكوين رؤية أوّلية لما يمكن أن يشكّل قاسما مشتركا بينهم. من الأكيد أنّ هذا المشترك لا يتموضع على مستوى المؤلّفات، كما لا يتحدّد على مستوى الأنساق، و لا حتّى على صعيد المفاهيم؛ و إنّما يتحدّد، كما قلنا سابقا، على مستوى المشروع. فكيف إذن تتحدّد ماهية هذا المشروع خلال النصف الثاني من القرن العشرين ؟
6 المسألة الأولى: هي عدم وجود تعارض بين المفهوم و الوجود، و وضع حدّ للفصل الميتافيزيقي التقليدي يبنهما، وهو الفصل الذي يربطه نيتشه باللحظة السقراطية، و يعتبره بداية الانحطاط في الفلسفة [7]. يجب إذن، و على أنقاض الميتافيزيقا، تبيان بأنّ المفهوم هو حيّ و أنّه بمثابة ابتكار، و أنّه سيرورة و حدث، وب حكم ذلك فهو غير منفصل عن الوجود.
6 المسألة الثانية: تتمثّل في العمل على تغيير "سياسة الفلسفة" و جعل الفلسفة تكتب داخل الحداثة. وهو ما يعني أيضا إخراج الفلسفة من أسوار الجامعة و المجال الأكاديمي، و جعلها تتداول في الحياة و من أجلها. فالفلسفة يجب أن تهتمّ بالحداثة الفنّية و الفكرية و السياسية، و ألاّ تبقى منفصلة و منعزلة عنها.
6 المسألة الثالثة: في برنامج "لحظة" الفلسفة الفرنسية المعاصرة، تتمثّل في التخلّي أيضا عن التعارض، ما بين فلسفة المعرفة و فلسفة الممارسة. أي التخلّي عن التعارض الذي أقامه كانط بين "العقل النظري" و "العقل العملي"، و إظهار بأنّ المعرفة ذاتها هي ممارسة.
6 المسألة الرابعة: من البرنامج المذكور، يتعلّق بتموقع الفلسفة داخل المشهد الفلسفي دون المرور بالفلسفة السياسية. فالهاجس هنا هو محاولة إقامة ما يمكن تسميته بـ"المناضل الفلسفي"، و جعل الفلسفة "ممارسة نضالية" في حضورها و في نمط وجودها، دون أن تتماهى مع الممارسة السياسية الخالصة. لا يتعلّق الأمر بمجرّد دعوة للتأمّل في السياسة، و إنّما يجب أن تكون تدخّلا سياسيا أصيلا.
6 المسألة الخامسة: تتعلّق بالعودة إلى "مسألة الذات" أو سؤال الذات، وهي المسألة المهجورة و المسكوت عنها من قبل النموذج التأمّلي. و هذا يقتضي فتح باب النقاش على مصراعيه مع التحليل النفسي حول هذه المسألة.
6 المسألة السادسة: تتعلّق بابتكار "سياسة جديدة" للأسلوب و الكتابة في الفلسفة، من شأنها أن تجعل هذه الأخيرة تنافس الأدب دون أن تتخلّى عن فرادتها و أصالتها و خصوصيتها. يتعلّق الأمر بابتكار، للمرّة الثانية بعد القرن الثامن عشر، لصورة "الكاتب الفيلسوف"، أو "الفيلسوف الشاعر".
خلاصة:
تلكم إذن هي ما يميّز "اللحظة الفلسفية الفرنسية المعاصرة"، على مستوى البرنامج، و على مستوى الطموح. ربّما يعكس هذا رغبة في إثبات الهوّية، أو هوّية رغبة. هناك رغبة جامحة لجعل الفلسفة كتابة نشيطة و قوّة فاعلة، بما هي "آلة حربية و إبداعية" لذات جديدة. يتعلّق الأمر، بجعل الفيلسوف يصير شيئا آخر غير "الحكيم"، و شيئا آخر غير "منافس القسّ"، على حدّ تعبير نيتشه[8]. إنّ البرنامج يروم أن يجعل الفيلسوف "كاتبا مقاوما"، أو "فنّانا" مبدعا للذات، و مبتكرا لأشكال جديدة للحياة. و هذه كلّها نعوت مختلفة لرغبة واحدة اخترقت الحقبة المعاصرة و تسعى لجعل الفلسفة تشتغل لأوّل مرّة لحسابها الخاصّ. إنّ الفلسفة الفرنسية للنصف الثاني من القرن العشرين تقترح على الفلسفة تفضيل "تجربة" السير في الدروب و المسالك على "معرفة" الغاية و الهدف، حتّى و لو كانت تلك الدروب تبدو موصدة، و تلك المسالك تبدو تائهة [9]. يتعلّق الأمر بجعل الفلسفة عبارة عن "اختبار" و"محاولة" بدلا من اعتبارها تأمّلا و حكمة [10]. و بالفعل لقد غدت هذه الفلسفة بدون حكمة، وهي المسألة التي تؤاخذ عليها بقوّة اليوم. لقد فضّلت هذه الفلسفة المغامرة على الراحة [11]، و التيه بدل الوصول. يتعلّق الأمر "بمغامرة المفهوم". وهو الذي يعني الرغبة ليس في فصل المفهوم عن الحياة، و ليس في جعل الكينونة تخضع للفكرة أو للمعيار أو للغاية، و إنّما الرغبة في أن يصبح المفهوم و إبداع المفهوم ذاته مسلكا و جسرا لا ندري بالضرورة مآله، و لا الغاية من وجوده. يوجد في هذه الفلسفة الكثير من روح المغامرة و النزعة التجريبية، يطلق عليها دولوز "الفلسفة الرحّالة" [12]. لهذا جاز أن نختم تحليلنا هذا بالقول، بأنّ اللحظة الفلسفية الفرنسية المعاصرة، هي لحظة "اختبار" أو "مغامرة" أو "تيه" فلسفي [13].
---------------
الهوامش:
[1]- Alain Badiou, panorama de la philosophie française contemporaine. Conférence à la bibliothèque nationale, 1 juin 2004, à Buenos Aires.
[2] ـ راجع، محمد أندلسي، "نحو سياسة جديدة للفلسفة"، مجلّة الفكر العربي، مرجع مذكور سابقا.
[3] ـ يمكن للقارئ الرجوع إلى مقالي بمجلة "مدارات فلسفية"، العدد 12، "نيتشه و سياسة الأسلوب الأدبي".
[4] ـ يتعامل نيتشه مع العمل الفلسفي كعمل ارتيابي لا يخلو من شبهات و تمويه. و لهذا وجدناه يعتبر مفهوم "المسرح" أفضل من يعبّر عن حقيقة المشهد الفلسفي. فالفلسفة في نظره مسرح يتقنّع، و التمثّلات التي تقدّمها الفلسفة عن الجسد ـ بما هو اللفظ الذي يقوم مقام الذات في الجنيالوجيا النيتشوية ـ تنتمي إلى التمثيل المسرحي، حيث تعطي لنا صورة عن جسد قابل للتبادل، إنّه الجسد / الموضوع الذي تزعم أنّه الجسد الحقيقي. لهذا تدعو الجنيالوجيا إلى كشف هذا القناع لإدراك ما يحجبه التمثّل من عمق فيما وراء المظاهر، وهو عمق مدوّخ و مقلق لأنّه يفلت من قبضة الفهم الواضح و البديهي، كما يفلت من كلّ إخضاع لنظام منطقي كمقدّمات للسيطرة على القوى و ترويضها. انظر أيضا قراءة فوكو لكتاب دولوز "منطق المعنى".
[5] ـ يمكن للقارئ الرجوع بصدد تفكيك الكوجيطو الديكارتي إلى كتابي "الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد"، من ص 39 إلى ص 42.
[6] ـ يرى نيتشه بأنّ الخطأ الذي تسقط فيه الميتافيزيقا، إنّما يتمثّل في اعتقادها بإمكانية اختزال النشاط الاستعاري للجسد إلى النشاط الواعي. بينما تعتبر الجنيالوجيا بأنّه لا وجود لتفكير واع إلاّ انطلاقا من عمق لا واع. إذ لا يعي الإنسان إلاّ الجزء الضئيل من نشاطه الجسدي الاستعاري ، وهو الذي نطلق عليه الوعي أو العقل. إذ ينتج هذا الأخيرـ خلال نشاطه التأويلي ـ أشكالا تنظيمية تمنح المعنى لفوضى لعبة قوى الجسد و الحياة، فتصنع ما نسمّيه عالما، أي تشكيلا معيّنا. راجع ، محمد أندلسي، "نيتشه و سياسة الفلسفة"، الفصل الخامس: النصّ الجنيالوجي كجسد أو كأسلوب جديد في الكتابة، منشورات، دار توبقال للنشر، 2006.
[7] ـ راجع، "نيتشه و سياسة الفلسفة"، القسم الثاني، الفصل الثالث: "الجينيالوجيا بين التاريخ و السيكولوجيا". مرجع سابق.
[8] ـ يمكن الرجوع بصدد العلاقة بين الفلسفة و النموذج القسّيسي إلى كتابي:"نيتشه و سياسة الفلسفة"، القسم الثاني، الفصل الثالث،" الجينيالوجيا بين التاريخ و السكولوجيا"، من ص 94 إلى ص 136. دار توبقال للنشر، 2006، نفس المرجع.
[3] ـ يمكن للقارئ الرجوع إلى مقالي بمجلة "مدارات فلسفية"، العدد 12، "نيتشه و سياسة الأسلوب الأدبي".
[4] ـ يتعامل نيتشه مع العمل الفلسفي كعمل ارتيابي لا يخلو من شبهات و تمويه. و لهذا وجدناه يعتبر مفهوم "المسرح" أفضل من يعبّر عن حقيقة المشهد الفلسفي. فالفلسفة في نظره مسرح يتقنّع، و التمثّلات التي تقدّمها الفلسفة عن الجسد ـ بما هو اللفظ الذي يقوم مقام الذات في الجنيالوجيا النيتشوية ـ تنتمي إلى التمثيل المسرحي، حيث تعطي لنا صورة عن جسد قابل للتبادل، إنّه الجسد / الموضوع الذي تزعم أنّه الجسد الحقيقي. لهذا تدعو الجنيالوجيا إلى كشف هذا القناع لإدراك ما يحجبه التمثّل من عمق فيما وراء المظاهر، وهو عمق مدوّخ و مقلق لأنّه يفلت من قبضة الفهم الواضح و البديهي، كما يفلت من كلّ إخضاع لنظام منطقي كمقدّمات للسيطرة على القوى و ترويضها. انظر أيضا قراءة فوكو لكتاب دولوز "منطق المعنى".
[5] ـ يمكن للقارئ الرجوع بصدد تفكيك الكوجيطو الديكارتي إلى كتابي "الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد"، من ص 39 إلى ص 42.
[6] ـ يرى نيتشه بأنّ الخطأ الذي تسقط فيه الميتافيزيقا، إنّما يتمثّل في اعتقادها بإمكانية اختزال النشاط الاستعاري للجسد إلى النشاط الواعي. بينما تعتبر الجنيالوجيا بأنّه لا وجود لتفكير واع إلاّ انطلاقا من عمق لا واع. إذ لا يعي الإنسان إلاّ الجزء الضئيل من نشاطه الجسدي الاستعاري ، وهو الذي نطلق عليه الوعي أو العقل. إذ ينتج هذا الأخيرـ خلال نشاطه التأويلي ـ أشكالا تنظيمية تمنح المعنى لفوضى لعبة قوى الجسد و الحياة، فتصنع ما نسمّيه عالما، أي تشكيلا معيّنا. راجع ، محمد أندلسي، "نيتشه و سياسة الفلسفة"، الفصل الخامس: النصّ الجنيالوجي كجسد أو كأسلوب جديد في الكتابة، منشورات، دار توبقال للنشر، 2006.
[7] ـ راجع، "نيتشه و سياسة الفلسفة"، القسم الثاني، الفصل الثالث: "الجينيالوجيا بين التاريخ و السيكولوجيا". مرجع سابق.
[8] ـ يمكن الرجوع بصدد العلاقة بين الفلسفة و النموذج القسّيسي إلى كتابي:"نيتشه و سياسة الفلسفة"، القسم الثاني، الفصل الثالث،" الجينيالوجيا بين التاريخ و السكولوجيا"، من ص 94 إلى ص 136. دار توبقال للنشر، 2006، نفس المرجع.
[9] - Michel Beaujour, Miroirs d’encre, Rhétorique de l’autoportrait, p320, collection poétique, seuil, Paris, 1980.
[10] ـ محمد أندلسي: "جينيالوجيا الخطاب الميتافيزيقي"، ص 12. مرجع سابق.
[11] - Daryush shayegan : « Qu’est-ce qu’une révolution religieuse ?, p141, les presses D’Aujourd’hui , 1982.
[12] - Gilles (D), « pensée nomade », p159 à p174, in Nietzsche/Aujourd’hui ?, 1- intensités, 10/18, 1973.
[13]- « Qu’est-ce qu’une révolution religieuse ? », ibid . p141
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق