إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الثلاثاء، 6 أكتوبر 2009

ما هي الميتافيزيقا ؟

مارتن هيدجر  
ترجمة: د. محمد سبيلا
ما هي الميتافيزيقا ؟ إنّ ما نتوقّعه من هذا السؤال هو أن يكون مناسبة لتقديم خطاب عن الميتافيزيقا. لكنّنا سنتخلّى عن ذلك. و بدله سنناقش مسألة ميتافيزيقية محدّدة. و بسلوكنا لهذا السبيل ننتقل مباشرة إلى الميتافيزيقا. و بهذه الطريقة وحدها نوفّر للسّؤال الإمكانية الحقّة ليقدّم نفسه. إنّ مشروعنا يتضمّن، كخطوة أولى، الإعداد التدريجي لتساؤل ميتافيزيقي. و سيحاول هذا العرض، فيما بعد، تهيئة السؤال، و سيختم بمحاولة تقديم جواب عنه.
الإعداد التدريجي لتساؤل ميتافيزيقي:
إنّ الفلسفة، من وجهة نظر الحسّ المشترك هي، حسب كلمة هيجل، "العالم مقلوبا". و نتيجة لذلك فإنّ الطابع الخاصّ لمحاولتنا في حاجة إلى أن يكون ذا ميزة خاصّة. و هذه الخصوصية تنتج عن الطابع المزدوج للتساؤل الميتافيزيقي. فمن ناحية أولى نجد أنّ كلّ 
سؤال ميتافيزيقي يلامس دوما مجمل إشكالية الميتافيزيقا. بل إنّ هذا السؤال هو في كلّ مرة، هذا المجموع نفسه. لكن، لا يمكن من زاوية ثانية، مساءلة أيّة مسألة ميتافيزيقية دون أن يكون المسائل ـ من حيث هو كذلك ـ متضمّنا في السّؤال، أي مأخوذا ضمنه و مشمولا به. نستخلص من ذلك التنبيه التالي: يتعيّن على التساؤل الميتافيزيقي أن يطرح بالضرورة في مجمله؛ و يتعيّن عليه، في كلّ مرّة، أن يكون نابعا من الوضعية الأساسية للوجود الإنساني (الدزاين) المسائل. ذلك أنّنا نحن الذين نسائل، هنا و الآن، و من أجلنا نحن. إنّ وجودنا الإنساني (الدازاين)  ـ باعتبارنا هيئة من الباحثين و الأساتذة و الطلبة ـ وجود تحكمه متطلّبات المعرفة. فما هي الأمور الجوهرية التي تحصل لنا في عمق وجودنا الإنساني (الدازاين) من حيث أنّ المعرفة قد أصبحت هي شغفنا و هوانا ؟ إنّ مجالات معرفتنا منفصلة عن بعضها بمسافات شاسعة. فالطريقة التي تتناول بها علومنا موضوعها تختلف بشكل أساسي من علم إلى آخر. و لعلّ تناثر الفروع المعرفية و تفتّتها لا يعود تناسقه اليوم إلاّ إلى التنظيم التقني للجامعات و الكلّيات؛ وهو لا يأخذ معنى إلاّ عبر الأهداف العملية التي يتوخّاها المتخصّصون. و على النقيض من ذلك فإنّ انغراس العلوم في أساسها الجوهري قد انتهى منذ زمن. و مع ذلك فإنّنا بواسطة هذه العلوم كلّها، و باتّباعنا للمقاصد الخاصّة بها، نكون في علاقة مع الكائن نفسه. و من وجهة نظر العلوم تحديدا لا يتمتّع أي ميدان من الميادين بأولوية على الآخر؛ فالطبيعة لا تأتي قبل التاريخ و العكس صحيح، و ليس هنالك طريقة لتناول الموضوعات تضع نفسها فوق الطرائق الأخرى. و المعرفة الرياضية ليست أكثر صرامة من المعرفة التاريخية أو (الفيلولوجية) اللغوية؛ إنّ لها فقط سمة "الدقّة" وهي شيء آخر غير الإحكام أو الصرامة. أن نطلب "الدقّة" من علم التاريخ معناه المساس بمثال الصرامة الذي هو خاصّ بعلوم الروح. إنّ العلاقة مع العالم، التي تسود كلّ العلوم، تجعلها تبحث في الموجود نفسه لكي تجعل منه موضوع بحث و تمحيص، و موضوع تعريف يطرح أساس هذا العلم نفسه، و ذلك عبر تلاؤم مستمرّ مع نمط وجود هذا الكائن Etant  و مع كيفية و نوعية مضمونه. إنّ ما يتمّ إنجازه في العلوم ـ بفضل المثال الذي تهفو إليه ـ هو حركة اقتراب نحو ما هو أساسي وجوهري في كلّ الأشياء. و هذه العلاقة المتميّزة مع العالم التي هي علاقة تتوجّه نحو الموجود نفسه، تتّخذ لها كدالّ مرشد موقفا يختاره الإنسان بحرّية. حقّا إنّ السلوك العام للإنسان، سواء منه السلوك القبل ـ علمي أو الذي يقع خارج إطار العلم، يشهد هو أيضا على وجود علاقة مع الكائن. و لكن السّمة المتميّزة للعلم تقوم في أنّه يترك، من حيث المبدأ، للشيء ذاته، وحده، جهارا، الكلمة الأولى و الأخيرة. إنّ العلم، من حيث هو تساؤل و تعريف و عرض للأسباب المرتبطة بذلك بالمادية الخالصة للأشياء، يؤدّي إلى الامتثال أمام الكائن و يتّجه إلى أن يترك له وله وحده، صلاحية الكشف عن ذاته. إنّ للبحث و النظرية إذن بهذا المعنى دور تقديم خدمة؛ و على أساس هذه الخدمة ترتكز إمكانية أداء دور دالّ مرشد ضمن مجمل الوجود الإنساني. إنّ العلاقة الخاصّة التي يقيمها العلم مع العالم، و كذا الموقف الإنساني الذي يجعل منه دالاّ مرشدا، ليسا في الحقيقة قابلين للفهم الكامل إلاّ عندما نرى و ندرك ما يحدث و ما يحصل أو ما يتأرّخ، في علاقة من هذا النوع مع العالم. إنّ الإنسان ـ هذا الكائن من بين كائنات أخرى ـ "يجري بحوثا علمية". و ما يحدث في عملية الإجراء هذه ليس شيئا أقلّ من تدخلّ كائن يدعى الإنسان، في مجموع الكائن، و ذلك بصورة يتوصّل فيها الكائن، في هذا التدخّل و بواسطته، إلى أن ينفتح من حيث هو و كما هو. إنّ التدخّل الذي يؤدّي إلى الانفتاح هو الذي يعيد إنتاج الكائن أمام ذاته وفق نمطها الخاصّ. و هذا المظهر الثلاثي  ـ العلاقة مع العالم، و الموقف، و تدخّل الإنسان ـ الذي يشكّل، في الأصل، وحدة، يبسط و يحسم مع بريق الوجود الإنساني الذي يتحقّق في الوجود العلمي. و إذا ما تملكنا بصراحة هذا الوجود الإنساني المتحقّق في العلم فإنّ علينا بالضرورة أن نقول: إنّ ما تشير إليه العلاقة مع العالم هو الكائن ذاته ولا شيء غيره. إنّ ما يتلقّى منه كلّ موقف سلوكه الموجّه هو الكائن ذاته و ليس شيئا أكثر منه. و ما به يتحقّق التحليل الذي يبحث و يواجه، في عملية تدخّل الإنسان، هو الكائن ذاته ولا شيء غيره. إنّ ما به يأخذ التحليل طابعا زمنيا و تاريخيا أصيلا، وهو يمارس البحث و مواجهة الأشياء، خلال عملية تدخّل الإنسان، هو الكائن ذاته ولا شيء وراءه. و لكن، من الملاحظ أنّه من الطريقة التي يتأكّد بها رجل العلم، وهو يجري أبحاثا، ممّا ينتمي إليه و ما يدخل ضرورة في مجال اختصاصه، فإنّه في هذه الطريقة ذاتها يتحدّث عن شيء آخر مختلف عن شيء آخر غير الكائن. و ما يتعيّن على البحث العلمي أن ينفذ إليه هو فقط "ما هو موجود" و خارج ذلك ـ لا شيء: فقط ما هو موجود ـ لا شيء و تعني بالخصوص: "ما هو موجود" و خارج ذلك لا شيء. ماذا إذن عن هذا اللاشيء ؟ هل من باب الصدفة أنّنا نعبّر هكذا بشكل طبيعي ؟ هل هي فقط مجرّد طريقة في الكلام ولا شيء أكثر من ذلك ؟  و لكن ما الذي يدعونا إلى الانهمام بهذا اللاشيء ؟ إنّ العلم ينحي العدم و يبعده باعتباره سلبا خالصا. و مع ذلك فإنّنا عندما نبعد العدم بهذه الطريقة، أليس معنى ذلك أنّنا نفترضه و نتقبّل وجوده ؟ و لكن هل نستطيع أن نتحدّث عن تقّبل إذا كنّا نتقّبل لا شيء ؟ ألا نقع بذلك في نوع من المماحكة اللفظية الفارغة ؟ ألا يتعيّن على العلم الآن أن يستعيد جديته و برودته من أجل أن يقتصر على الانشغال "بما هو موجود"؟ أليس العدم، بالنسبة للعلم، سوى فضاعة  و وهم ؟. إذا كان العلم على حقّ فإنّ هنالك نقطة واحدة ثابتة: وهي أنّ العلم لا يدّعي أنّه يعرف شيئا عن العدم. و ذاك في النهاية هو التصوّر الدقيق علميا للعدم. إنّنا نعرفه بقدر ما لا نريد أن نعرف عنه شيئا، ألا نعرف شيئا عن هذا اللاشيء. إنّ العلم لا يريد أن يعرف شيئا من العدم. لكن من المؤكّد أيضا أنّ العلم عندما يحاول أن يعبّر عن ماهيته الخاصّة، فهو يستنجد بالعدم، و ها هو يلجأ إلى ما يستبعد. يا لها من مفارقة ! يكشف لنا عنها العلم في حقيقته الأساسية ؟ إنّنا عندما نتأمّل وجودنا الفعلي ـ باعتباره وجودا محدّدا من طرف البحث العلمي ـ نكون قد سقطنا في نوع من التعارض الصادم. و في هذه الصدمة يكون قد تشكّل نوعا من التساؤل. إنّ السؤال ليس في حاجة إلاّ إلى أن يعبّر عنه بألفاظ خاصّة: ماذا عن العدم ؟.
إعداد السؤال:
إنّ عملية إعداد السؤال عن العدم يدفعنا بالضرورة إلى موقف يجعلنا نعرف ما إذا كان من الممكن أن يتلقّى هذا السؤال إجابة عنه، أو على العكس من ذلك أنّ الإجابة عنه مستحيلة. لقد قلنا من قبل أن العدم قد قبل، أي استبعد على العكس من ذلك من طرف العلم بنوع من اللامبالاة و التعالي، باعتباره "ما ليس موجودا". لنحاول مع ذلك أن نتساءل عن العدم: ما العدم ؟ منذ الاتّصال الأوّل يكشف لنا السؤال عن شيء غير مألوف. فنحن بتساؤلنا بهذا الشكل نكون قد وضعنا قبلا العدم كشيء "موجود"، ككائن محدّد هو هذا الشيء أو ذاك. و لكنّه يختلف عنه اختلافا جذريا. تساؤلنا حول العدم ـ أن نسأل عمّا هو وعن كيفية وجوده ـ يقلّب موضوع السّؤال إلى نقيضه. و بذلك يتخلّص السّؤال من موضوعه الخاصّ. و تبعا لذلك فإنّ كلّ إجابة عن هذا السؤال هي منذ البداية مستحيلة إذ أنّها تقدّم نفسها بقوّة الأشياء عبر الصيغة التالية: العدم "هو" هذا أو ذاك. إنّ كلاّ من السّؤال أو الجواب حول العدم يتضمّنان نفس التناقض الدلالي. و هكذا فليس ثمّة حاجة إلى أن يرفضه العلم. فالقاعدة التي يقلّبها الجميع باعتبارها القاعدة الأساسية للفكر، أي مبدأ التناقض الذي يتعيّن تجنّبه، و كذا "المنطق" العام، كلّها تخنق هذا السّؤال. إذ أنّ الفكر ـ الذي هو أساسا و دوما فكر عن شيء ما ـ يتعيّن علي أن يتصرّف ـ  من حيث هو تفكير في العدم ـ ضدّ ماهيته الخاصّة. بما أنّه يظلّ من الممنوع علينا أن نجعل من العدم، من حيث هو كذلك، موضوعا، فها نحن نكاد نشارف على نهاية بحثنا حول العدم، مفترضين مع ذلك، في هذا السؤال، أنّ "المنطق" هو الهيئة الفاصلة العليا، و أن الذهن هو الوسيلة الملائمة، و أنّ الفكر هو بالضبط الطريق المؤدّي إلى إدراك العدم في أصله، و إلى إقرار إمكان الكشف عنه. لكن هل سيكون من المسموح به إذن أن نجادل في سيادة "المنطق" ؟ أليس الذهن إذن، في الواقع، هو الحاكم و السّيد في هذا التساؤل حول العدم ؟. فبمعونته لم نتوصّل مع ذلك إلاّ إلى تحديد عام جدّا للعدم حيث نستطيع أن نضعه كمشكل و لكن كمشكل يحطّم ذاته. و ذلك لأنّ العدم هو نفي الكائن في مجموعه، أي اللاكائن الخالص المحض. و مع ذلك فإنّنا عندما نعبّر بهذا الشكل، فإنّنا نخضع العدم لتحديد أعلى، أي لما هو سلبي: فنحن نعرفه كشيء منفى. و الحال أنّه، حسب تعليمات "المنطق" التي هي تعليمات سائدة و غير قابلة للخرق، فإنّ النفي عملية من عمليات الذهن. كيف نستطيع إذن أن ندّعي، بصدد سؤال العدم، بل و بصدد مسألة إمكان هذا السؤال نفسها، أن نجعل الذهن في حالة تعطّل ؟ و مع ذلك فهل ما نفترضه هنا مسبقا في هذه المسألة هو أمر يقيني ؟ هل اللا و حالة النفي، و بالتالي النفي ذاته، تمثّل التحديد الأعلى الذي يندرج العدم تحته كنوع خاصّ من الأشياء المنفية ؟. أليس العدم موجودا إلاّ بسبب وجود الـ"لا" أي النفي ؟ أم أنّ الأمر على العكس من ذلك ؟ أليس النفي والـ"لا" موجودين لأنّ العدم موجود ؟ هذه قضايا لم يحسم فيها، بل لم ترتفع أبدا إلى مستوى السؤال الواضح. إنّنا نؤكّد ما يلي: إنّ العدم سابق سبقا أصليا على "اللا" و على النفي. إذا كانت هذه الأطروحة صحيحة، فإنّ إمكان النفي كعملية من عمليات الذهن، و من ثمّة الذهن نفسه، أمران يتوقّفان بشكل من الأشكال على العدم. كيف يمكن للذهن إذن أن يدّعي حقّ التقرير في مسألة العدم ؟ أليس تناقض المعنى الظاهر للسؤال حول العدم و للجواب المقدّم عنه، راجعا في النهاية إلى المعنى الخاصّ المؤكّد بصورة عمياء من طرف الذهن الذي هو في حالة شرود ؟. إذا كانت الاستحالة الصورية التي يمثّل بها سؤال العدم تثنينا عن مسعانا، و إذا كنّا على الرغم منها نطرح هذا السؤال، فإنّ علينا على الأقلّ أن نستجيب لما لا يكفّ عن الحضور و الاستمرار كمطلب أساسي لإمكان التوجّه نحو طرح جيّد لأي سؤال. إذا كان على العدم، أيّا كان شأنه، أن يكون هو ذاته هو مضمون السؤال، فإنّه ينبغي أن يكون معطى من قبل. و يتعيّن علينا أن نكون قد تمكّننا من الالتقاء به. أين نبحث عن العدم ؟ كيف نعثر على العدم ؟ ألا يتعيّن، من أجل العثور على شيء ما، أن تكون لدينا من قبل معرفة عامة عن أنّ هذا الشيء موجود ؟. و فعلا، فإنّ الإنسان ليس قادرا على البحث إلاّ عندما يكون قد توقّع مسبقا المثول الفعلي للموضوع المبحوث. و الحال أنّ ما نبحثه الآن، هو العدم. هل هناك في النهاية بحث بدون هذا الاستباق، أي بحث يقوم على الكشف الخالص عن الموضوع ؟ مهما يكن الأمر فنحن نعرف العدم، حتّى ولو لم يكن إلاّ ذلك الذي نتحدّث عنه كلّ يوم بهذا الشكل أو ذاك. و هذا العدم الشائع المبتذل المصاب بفقر الدم و الذي يقدّم نفسه على شكل بداهة شاحبة جاهزة، هذا العدم الذي يحوم حول أحاديثنا، دون أن نلحظه، هذا العدم يمكن أن نعطيه، بدون تردّد، ما يشبه التعريف:
العدم هو النفي الجذري لكلّية الموجود:
ألا يبدو أنّ هذا التوصيف للعدم يشير في النهاية إلى الاتّجاه الوحيد الذي يمكن انطلاقا منه أن نصادفه ؟ يتعيّن أوّلا أن يكون الكائن في كلّيته معطى (لنا) حتّى يمكن أن يخضع، من حيث هو كذلك، إلى عملية السلب الجذري التي يتعيّن على العدم نفسه ذاته أن ينكر نفسه فيها. غير أنّه حتّى لو غضضنا الطرف عن الطابع الإشكالي للعلاقة بين النفي و العدم، فكيف يمكن لنا، و نحن كائنات متناهية، أن نجعل مجموع الكائن في كلّيته سهل المنال في ذاته و سهل المنال، في نفس الوقت، بالنسبة لنا ؟. و فوق ذلك فإنّنا نستطيع أن نفكّر في الكائن في مجموعه من خلال "الفكرة" أو "المثال"، و نستطيع من ثمّة أن ننفي بالفكر ما نتخيّله هكذا، ثمّ نعود للتفكير فيه باعتباره شيئا منفيا. و بهذه الطريقة نصل إلى المفهوم الصوري للعدم المتخيّل، لكنّنا لا نصل أبدا إلى العدم ذاته. لكن العدم ليس لا شيء، و بين العدم المتخيّل و العدم "الحقيقي" لا يمكن أن يكون هناك أي فارق، هذا إذا كان من الصحيح أن العدم يمثّل عدم التمايز المطلق. أمّا بالنسبة للعدم "الحقيقي" أليس في ذلك رجوع إلى المدلول الغامض والمتناقض عن عدم موجود ؟. إنّها المرّة الأخيرة التي توقّف فيها اعتراضات الذهن بحثنا، هذا البحث الذي لا يمكن أن تقوم مشروعيته إلاّ عبر تجربة أساسية عن العدم. إذا كان من الأكيد أنّنا لا نستطيع أبدا أن ندرك مجمل الكائن في ذاته فليس أقلّ من ذلك يقينا أنّنا نجد أنفسنا واقعين وسط هذا الكائن، الذي هو منكشف لنا في مجمله بشكل أو بآخر. و في النهاية يظهر فرق أساسي بين إدراك مجمل الكائن في ذاته، و بين الإحساس بأنّنا موجودون وسط الكائن في مجمله. فاللفظ الأوّل يشير إلى استحالة مبدئية، بينما يشير اللفظ الثاني إلى حدث متواتر بالنسبة للكائن الإنساني (الدازاين). و يبدو، بدون شكّ، أنّنا في سلوكاتنا اليومية لا نرتبط في كلّ مرّة إلاّ بهذا الكائن أو ذاك، و أنّنا نكرّس أنفسنا على وجه الخصوص لهذا الميدان أو ذاك من ميادين الكائن. و رغم أنّ الابتذال اليومي يبدو و كأنّه يكتسي سمة التشتّت، فإنّه، مع ذلك، يضمن قدرا من تناسق الكائن في مجموعه رغم أنّ ظلاّ يخفى هذا التناسق. و عندما لا نكون منشغلين، على وجه الخصوص، بالأشياء و لا بأنفسنا، إذ ذاك يباغتنا هذا المجموع، في "الضجر الحقيقي" مثلا. و هذا الضجر ما يزال بعيدا عنا عندما يتعلّق الأمر فقط بهذا الكتاب أو بهذا المشهد، بهذا العمل، أو بهذه التسلية أو تلك التي تسبّب لنا الضجر، و لكنّه الضجر الذي ينبثق عندما "نصاب مثلا بالضجر". إنّ الضجر العميق الذي يجثم علينا كسحابة صامتة تنتشر في غياهب النفس الإنسانية، يقرب بين الناس و الأشياء، و بينك و بين الناس جميعا في سوية مدهشة. هذا الضجر يكشف الكائن في مجموعه. هناك إمكانية أخرى لهذا الانكشاف، وهي إمكانية تتوفّر لنا في الفرح الذي يولّده لا فقط حضور هذا "الشخص" أو ذاك، بل الحضرة الناتجة عن حضور شخص عزيز علينا. إنّ مثل هذه الحالة الوجدانية التي نكون فيها في هذه الحالة أو تلك، تجعلنا نحسّ، بأنّنا وسط الكائن في مجموعه، و أن شحنته تنفذ إلى أعماقنا. إنّ الموقف الوجداني الذي يجعلنا نحسّ بهذه الشحنة، لا يكشف لنا بطريقته الخاصّة، و في كلّ مرّة الكائن في مجموعه فحسب، بل إن هذا الكشف ـ الذي هو أبعد ما يكون عن كونه مجرّد حادثة بسيطة و عارضة ـ هو في نفس الوقت الحدوث الأساسي الذي تتحقّق فيه كينونتنا الإنسانية. إنّ ما ندعوه "بالعواطف" ليس لا ظاهرة ملازمة و لا عابرة في سلوكنا الفكري و الإرادي، كما أنّه ليس مجرّد حاضر لهذا السلوك، و ليست أيضا حالة باقية بقاء الأشياء، حالة نتدّبر فيها شؤوننا بهذا الشكل أو ذاك. و مع ذلك، فإذا كانت هذه الحالات الوجدانية تضعنا بمحضر الكائن في مجموعه، فإنّها تخفي عنّا العدم الذي نبحث عنه، و نكون عندئذ أقلّ تمسّكا بالرأي القائل بأنّ نفي الموجود في مجموعه، كما تكشف لنا عنه الحالة الوجدانية، يضعنا بمحضر العدم. و هذا لا يمكن أن يحصل، إلاّ في الحالة الوجدانية، التي تكشف لنا العدم، بصورة أصيلة، و عبر عملية كشف خاصة. فهل تحدث في كينونة الإنسان (الدازاين) حالة و جدانية تجعله بمحضر العدم ذاته ؟ أن يحدث ذلك فذاك أمر ممكن، حتّى و إن كان بصورة نادرة، و دون أن تكون له حقيقة ملموسة إلاّ في بعض اللحظات، و ذلك في تلك الحالة الوجدانية الأساسية التي هي القلق. و نحن لا نعني بالقلق هنا ذلك الاكتئاب الشائع الذي ينطوي بطبيعته على تهيّؤ للخوف لن يكون من العسير مصادفة نماذج منه. فالقلق يختلف اختلافا جوهريا عن الخوف. إذا كنّا نحسّ بالخوف و نعانيه فإنّ ذلك يكون دوما تجاه هذا الكائن أو ذاك، الذي يهدّدنا بهذا الشكل أو ذاك. إنّ "الخوف من..."  شيء ما هو أيضا خوف دوما من أجل شيء محدّد. بما أنّ السمة الخاصّة للخوف هو أن يكون محدّدا تجاه هذا الشيء أو ذاك فإنّ الإنسان الخائف يجد نفسه مقيّدا بهذا الشيء الذي يثير لديه الخوف. و في المجهود الذي يبذله الإنسان لينقد نفسه من هذا الموضوع أو ذاك فإنّه يحسّ بعدم الأمن تجاه هذا الشيء الآخر، أو يصاب بنوع من "فقدان الصواب" بصورة عامة. أمّا القلق فلا يتيح لمثل هذا الاضطراب أن يحصل. بل بالعكس فإنّه ينشر نوعا من الهدوء المتميّز. و الحقّ أنّ القلق هو دوما قلق "أمام..."،  لكن ليس أبدا قلقا تجاه هذا الشيء أو ذاك. إنّ القلق "أمام..." هو دوما قلق " من أجل..." لكنّه ليس أبدا قلقا من أجل هذا الشيء أو ذاك. و مع ذلك فإنّ عدم تحدّد ما نشعر أمامه أو من أجله بالقلق ليس افتقارا خالصا للتحديد؛ بل إنّه الاستحالة الأساسية في تلقي تحديد معيّن. إنّه يبرز ضمن تفسير معروف لدينا. ففي القلق نقول: "هناك شعور بالقلق" و لكن من هو هذا المجهول؟ من الذي يضايق هذا المجهول؟ إنّنا لا يمكن أن نقول أو أن نشير إلى هذا الشيء الذي يجعلنا نشعر بالتضايق و القلق. فكلّ الأشياء، و نحن ذاتنا، نسقط في حالة من اللامبالاة و عدم التمايز. و مع ذلك فإنّ ذلك لا يحدث بمعنى مجرّد اختفاء للأشياء، بل في نوع من تراجع للموجود في مجمله، ذلك الذي يداهمنا في حالة القلق هو ما يثير في نفوسنا ذلك الضجر، إذ لا يبقى لنا أي شيء نستند إليه. في انزلاق الكائن هذا لا يبقى أمامنا و لا يباغتنا إلاّ هذا "اللاشيء".
القلق يكشف العدم:
في القلق "نحن نسبح معلّقين". و بتعبير أوضح فإنّ القلق يمسك بنا معلّقين هكذا لأنّه يحدث انزلاقا للكائن في مجموعه. و تبعا لذلك فإنّنا نحن أنفسنا ـ نحن هؤلاء الناس الموجودين هنا ـ نحسّ، في نفس الوقت، بأنّنا ننـزلق بين الكائنات. و لهذا السبب، لست لا "أنت" و لا "أنا" هما اللذان يضايقهما القلق، بل هو يشعر به من طرفنا على هذا الشكل. و لا وجود في هذه الهزّة إلاّ للكائن الإنساني الذي يحقّق حضوره في القلق، و الذي يجعله لا يتعلّق بأي شيء. إنّ القلق يخرسنا لأنّ الكائن ينـزلق في مجمله و العدم يحاصرنا من كلّ جانب، و كلّ عبارة تنطق بفعل "الكينونة" تصمت في حضوره. و إذا كان من الصحيح أنّنا في حالة التضايق التي يسبّبها القلق نحاول، في الغالب، أن نسدّ هذا الفراغ الذي أحدثه الصمت عبر التفوّه بكلام مرتجل، فليس ذلك إلاّ شاهدا على حضور العدم. أن يكون القلق هو الذي يكشف عن العدم فهذا ما يؤكّده الإنسان نفسه عندما ينجلي عنه القلق. و مع النظرة الناصعة التي تحملها الذكرى الطرية لتجربة القلق نجد أنفسنا مرغمين على أن نقول: إنّ هذا الذي نشعر أمامه أو من أجله بالقلق لم يكن، فعليا، شيئا ما. و بالفعل فإنّ العدم ذاته، بما هو كذلك، كان موجودا هناك.
و مع هذه الشحنة الوجدانية الأساسية للقلق نكون قد التقينا بهذا الحدث الأصيل الذي تتحقّق فيه الكينونة الإنسانية (الدازاين)؛ إذ أنّ العدم قد انكشف لنا فيها. و انطلاقا منها يتعيّن علينا أن نتساءل عنه: فماذا عن العدم ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق