إعــــــــــــــــــــــــــلام
مرحبا بكم أيّها الأعزّاء، في مدوّنتكم طريق النجاح.

نرجـو أن تُشــرّفـونا بزياراتـكم ومساهمــاتكم ونعلمـكم أننّــا على استعــداد لنشر كـلّ مـا تتكرّمـون به من مساهمـات تفيــد الأستـــاذ والتلميذ معا. ننتــظر أن تمــدّونا بدروسـكم أو امتحاناتكم أو كلّ ما ترونه صالحا للنشر، يستفيد منه دارس الفلسفة في السنوات الثالثة والرابعة من شعبتي الآداب والعلـوم. للمراسلة والطلبـات والاستفسار يُمكنـكم الاتّصـال على العنوان التالي:

بحث في المدونة

الثلاثاء، 11 نوفمبر 2014

ما الوعي ؟

الأستاذ: الفيتوري الرابطي
هل يحطّ الإقرار بتبعيّة الوعي للواقع من قيمته ؟
يعتقد كلّ إنسان أنّه سيّد أفكاره وأفعاله بعيدا عن كلّ إشراط (إكراه) خارجي. وهو ينسب ذلك إلى الوعي الذي يجزم أنّه قوام وجوده. غير أنّ ما يعيشه كلّ فرد من خيبات أمل بسبب تعنّت الواقع أو من مشاعر ندم جرّاء اتّخاذه قرارات سيّئة أو عدم تطابق المُنجز مع المأمول في أفعاله، يبعث على التظنّن على وجاهة هذا الاعتقاد. ما يشرّع السّؤال عن منزلة الوعي ودوره في حياة الإنسان .
فما الوعي ؟ وهل يُعدّ الإقرار بتبعيّته للواقع تقليلا من شأنه وإخضاعا للإنسان لظروف عيشه أم يبقى الوعي على الرّغم من كونه مُكتسبا ميزة الإنسان النوعيّة وسبيله للتحرّر من سلطة الواقع ؟ ألا يفترض الأمر إذن التسليم بعلاقة جدليّة بين الوعي والواقع ؟
الوعي هو المعرفة التي يملكها الفرد عن نفسه ووضعه وهو درجات وعي عفوي يقتصر على امتلاك معرفة حسّية مباشرة تصحب سائر نشاطات الإنسان ووعي متبصّر هو معرفة عقلانية يسبقها نظر واستدلال. وهو ميزة تسمح للإنسان بتدبّر حياته وإدارتها على نحو مختلف نوعيّا عن الحياة الحيوانيّة التي تحكمها الغريزة. وقد توهّم الإنسان أنّ الوعي شأن يعلو على كلّ الإشراطات الخارجيّة وأنّه تبعا لتفرّده به واحتكامه إليه سيّد نفسه وجدير بالسّيادة على العالم. غير أنّ فحصا موضوعيّا متأنّيا ونزيها يكشف أنّ الوعي تابع للواقع أي هو نتاج الظروف الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة التي يوجد فيها الإنسان. وتتجلّى هذه التبعيّة بمظهرين على الأقلّ: من جهة تكوينه فليس الوعي معطى فطريّا يرثه الفرد من سلفه كما يرث لون بشرته بل هو صفة يكتسبها عبر ما يتلقّاه من تنشئة داخل الأسرة والمجتمع. فهو إذن إنشاء تربويّ يكتسبه الفرد عبر مسار تاريخي مشروط بالظروف الماديّة المتغيّرة من مجتمع لآخر ومن عصر لعصر. كما تتجلّى تبعيّة الوعي للواقع من جهة وظائفه. فهو سواء في وظائفه النظريّة المتعلّقة بالعقل أي إنتاج الأفكار والمعارف أو في وظائفه العمليّة المتّصلة بالإرادة أي التمييز بين الخير والشرّ، النافع والضّارّ وتدبّر الأمور واتّخاذ القرارات، مرتهن أيّما ارتهان بالواقع السّائد. والدّليل أنّه لم يظفر أحد بحقيقة مطلقة لا في الفلسفة ولا في العلم وإلا لما كان للفلسفة والعلم تاريخ كما أنّه لم ينجح فرد في إنشاء معايير كونيّة للأخلاق تشمل كلّ الناس وتنطبق على كلّ الأوضاع. فلكلّ مجتمع ولكلّ عصر حقائقه وقيمه.  ولا يقتصر القول بالتّبعيّة على الوعي الفرديّ بل يشمل أيضا الوعي الاجتماعي أي أنظمة المعرفة التي تنشئها الشّعوب عن نفسها. ولقد كشف ماركس بقوله " ليس وعي النّاس ما يحدّد وجودهم بل وجودهم الاجتماعي هو ما يحدّد وعيهم " أنّ أنساق المعرفة الفلسفيّة والفنيّة والدّينيّة والسّياسيّة وغيرها التي تنتجها الشّعوب لا تعدو أن تكون بنية فوقيّة مشروطة نشأة وتطوّرا واشتغالا بتطوّر قُواهُم الإنتاجيّة والعلاقات التي تناسبها. وعكس ذلك انزلاق في الإيدولوجيا  ومن الطّبيعيّ أن يفضي الإقرار بتبعيّة الوعي إلى تغيير تصوّرنا للإنسان من اعتباره ذاتا تختزل إنّيتها في الوعي نفسه كجوهر متعالٍ إلى اعتباره كائنا تاريخيّا محكوما بضرورات اقتصادية واجتماعية هي ما يحدّد فكره وفعله ويسمُ إنّيته بميْسم الانفتاح والتّعدّد والتّغيّر والتعقيد. كما يفضي أيضا إلى تغيير تقديرنا لمكانة الوعي ومشتقّاته في حياة الإنسان. إذ لم يعد ممكنا التصديق بمركزيّة الوعي وأولويّته وسيادته لأنّ التاريخ بما هو سيرورة الحياة الواقعيّة للبشر لا يمشي على رأسه ولا تحكمه الأفكار بل تحكمه العوامل الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي يعبّر عنها الصّراع الطبقيّ. لكن إلى أيّ حدّ يتعارض الإقرار بتبعيّة الوعي للواقع مع الاعتراف بفعاليته وتأثيره الحاسم على حياة الإنسان ؟ ما مدى وجاهة التسليم بتلازم تبعيّة الوعي للواقع وتراجع منزلته لدى الإنسان ؟
الحقيقة على الرّغم من المكاسب النظريّة الثوريّة التي وفّرها القول بتبعيّة الوعي للواقع المادي خصوصا تلك التي تتعلّق باستبدال التصوّر الميتافيزيقي للوعي وللإنسان بتصوّر تاريخيّ موضوعيّ يزيل أوهام الحرّيّة المطلقة والسّيادة والتّعالي ومعرفة الإنسان لنفسه بنفسه، فإنّ المبالغة في جعل الوعي مجرّد نتاج وانعكاس للظّروف المادّيّة هي أمر غير مبرّر موضوعيّا. فالاستتباع المنطقي المترتّب عن ذلك هو خضوع الإنسان بصفته الكائن الواعي خضوعا تامّا للواقع وتحوّله إلى صنيعة لظروف مادّيّة قاهرة لا يملك إزاءها غير قبولها كما هي دون قدرة على تغييرها أو التّأثير على مجرياتها. والحال أنّنا نجد الإنسان على مرّ العصور وعلى اختلاف الأوضاع التاريخيّة التي يوجد فيها لا ينفك يثابر من أجل تغيير واقعه. وهو يتسلّح في كلّ الأحوال بالوعي ومنتجاته المعرفة والتقنيّة قصد جعل الظّروف ملائمة أكثر لتطلّعاته وأشواقه فالدّين والفلسفة والأدب وسائر منتجات الوعي الأخرى لا يقتصر دورها على تصوير الواقع وعلى إعادة إنتاجه فكريّا كما هو كائن بل يتخطّى ذلك إلى الاضطلاع بنقد الواقع وفضح ما يشقّه من صراعات وأزمات وبتشريع البدائل السّياسيّة والاجتماعيّة عنه. فإذا كان يجب على التّاريخ أن يمشي على قدميه فإنّه يجب عليه أيضا أن يفكّر برأسه لا بقدميه. بمعنى أنّ الإنسان فضلا عن كونه صنيعة التّاريخ والظّروف المادّيّة فهو ككائن واع صانع للتّاريخ ومؤثّر على أحداثه واتّجاهاته. وقد أكّد لينين على أنّه " لا ممارسة ثوريّة بدون نظريّة ثوريّة ". فالوعي إذن أكان فرديّا أو جماعيّا هو سبيل الإنسان للتحرّر من الواقع والتحكّم فيه. بل كلّما ازداد الإنسان وعيا بتبعيّة وعيه وكيانه للواقع المادّي، تعمّقت قدرته الثّوريّة وترشّدت وتطوّر استعداده لتغيير الواقع بما يناسب أمله في العدالة والحرّيّة والسّيادة على ذاته وعلى حياته. ولذا إنّ الاعتراف بتبعيّة الوعي للواقع لا يلزم عنه ضرورة التقليل من شأن الوعي وفعاليّته التغييريّة الثّوريّة. بل على العكس يمثّل هذا الاعتراف دافعا إضافيّا للإنسان كيّ يتحملّ مسؤوليّة نحت كيانه وصنع تاريخه عن طريق نضاله الفكريّ والعملي الملموس والدؤوب بعيدا عن أوهام التعالي الزائف والسّيادة الجوفاء.
يمكننا بناء على ما تقدّم أن نستخلص أنّ النّظر في علاقة الوعي بالواقع يحفّه مزلقان: مزلق المثاليّة الجوفاء التي تصادر على استقلال الوعي عن كلّ المؤثّرات والإشراطات ومزلق المادّيّة العمياء التي لا ترى في الوعي غير مرآة عاكسة للواقع كما هو كائن. بينما يفترض تجنّب الوقوع في كلّ من هذين المزلقين التأكيد على الطّابع الجدلي للعلاقة. فبين الوعي والواقع تأثير وتأثّر فعل وانفعال متبادلين ما يكشف وجها جديدا من وجوه التّناقض العديدة التي تسكن الإنّية الإنسانيّة هو التناقض بين الانخراط في الواقع والرغبة في تجاوزه والتحرّر من سطوته.

هناك تعليق واحد:

  1. رائع جدا استاذ هذه المقالة لبدا انتطور من مستوى التحرير الفلسفي

    ردحذف